الحرية لن تكون في الإلتزام بالتقاليد البالية
يوضح المفكر الإسلامي واستشاري الطب النفسي محمد كمال الشريف سببا رابعا من الأسباب التي تتعلق بوجوب مخالفة التقاليد بحسب رأيه في مقاله الحرية لن تكون في الإلتزام بالتقاليد، ويأتي المقال الثالث في سلسلة لماذا يجب علينا عدم الإلتزام بالتقاليد البالية؟
وقد تم نشر هذه السلسلة من المقالات سابقة في قسم بنون، لذلك نحن ننصح كل أب وكل أم ان يطلعوا على كنز من المعلومات في قسم بنون حول تربية الاطفال و المراهقين في الرابط هنا
إن التقاليد تميلُ إلى أن تكون آصاراً وقيوداً قليلة المرونة، وما قول أحدهم: “كلام الناس لا يرحم” إلا تعبيراً على الصلابة الأصيلة في بنية التقاليد، بينما الإسلام قائم على اليسر، ورَفع الحرج، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}} المائدة :6{
وقال أيضاً: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} {الحج: 78{
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
ولنتبين الاختلاف في تناول الأمور بين التقاليد والدين من حيث الحرج ورفع الحرج، نأخذ مثالاً “الهدية”.
اقرأ/ي أيضا: كيف جعلنا العيب أكبر من الحرام عند أبنائنا؟
لقد حث الإسلام على الهدية بين المؤمنين، لما تولِّده من حب ومودة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في الأوسط: “تهادوا تحابوا”.
وقال أيضاً: “يا نساء المؤمنين! تهادَيْنَ ولو فِرْسَنَ شاة، فإنه يُنْبتُ المودة، ويُذْهِبُ الضغائن”.
وروى الترمذي في أبواب: البر والصلة عن عائشة – رضي الله عنها -: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
فقبول الهدية سنّة، والإثابة عليها بأن يقدم هدية للذي أهداه إن قدر على ذلك سنة، وإن لم يقدر، أو لم يرغب في الإثابة، فيكفيه أن يشكر الذي أهداه. روى الترمذي في أبواب: البر والصلة قوله صلى الله عليه وسلم: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله” وقال: هذا حديث صحيح.
اقرأ/ي أيضا: مشكلة التقاليد مع الدين الإسلامي
فلم تكن الهدية فرضاً، ولم تكن الإثابة عليها واجباً، إنما سنة لا يؤاخذ من تركها، ومن فعلها كان له الثواب والأجر، وكان له الخير الذي تأتي به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
أما في مجتمع التقاليد كما هو الحال في أكثر بلدان المسلمين، فقد اختفت الهدية التي تأتي دون مناسبة، أو كادت، تلك الهدية التي يأتيك بها قريب، أو صديق حبّاً بك، دون أن يكون هنالك مولود، أو عرس، أو غير ذلك، فتكون هديته تعبيراً عن حبه، فتولد في نفسك الحب له، ويتحقق قوله صلى الله عليه وسلم: “تهادوا تحابوا”.
إنما الذي عليه الناس الآن أن الهدية في المناسبات واجبة، فللزواج هدية، وللولادة هدية، وللسفر هدية، وللحج هدية، وللمرض هدية، وللبيت الجديد هدية، وللعمل الجديد هدية، وللنجاح في المدرسة هدية… بل وحتى الموت صارت له هدية.
والذي يُقصّر فلا يأتي بهدية فهو إما فقير لا يملك ثمنها، أو بخيل نتن، أو غير محبّ لأصحاب المناسبة، ومن منا يسرّه أن يبدو واحداً من هؤلاء الثلاثة في نظر أصدقائه، وأقربائه، وبخاصة في مجتمعات التقاليد؟
لذا ترى الواحد منا يستدين ليؤدي واجباً اجتماعياً.
ولا تقف المشكلة عند هذا الحد من تحمل ما لا نطيق، فأنت عندما قررت أن تقدم لهم هدية كما هي (الأصول) وكما هو الواجب يكون عليك التفكير في انتقاء ما تقدمه بحيث يكون نافعاً لهم ينال إعجابهم، ويليق بمكانتك أنت، مع ملاحظة الأصول في ذلك أيضاً، فهدية من طعام يصلح مؤونة، مقبولة في الريف، مرفوضة في المدينة، فأنت تفكر ما الذي يمكن أن تقدمه لهم، فإن كان ينقصهم شيء في بيتهم، أداة كهربائية أو ما شابه، كان الأمر سهلاً عليك، أما إن كانت كل الأساسيات لديهم، ولا ينقصهم في بيتهم شيء، لم يكن أمامك إلا شراء التحف والصور وما شابه من الكماليات.
اقرأ/ي أيضا: انكار المنكر وسيلة لبناء المجتمع السوي
وعندما تقدم تحفة إلى صديقك أو قريبك فهل تراه يسر بها كثيراً؟ لو كانت هديتك له مجانية حقاً، فإن أي شيء صغر أم عظم يسر، لكنها هدية في الظاهر ودين في الحقيقة، فأنت تتوقع أن يثيبك عليها هدية بمثل قيمتها، أو أكثر عندما تحين مناسبة عندك، وهو يشعر أن عليه أن يفعل ذلك وإلا تكلم عليه الناس، والناس هنا هم أنت أيها الصديق المحب الذي قدمت له الهدية، والذين سوف تحدثهم عن تقصيره في حقك عندما تكون لديك مناسبة، ولا يأتيك هو بهدية.
إذاً في مجتمع التقاليد عندما تصلك هدية، فإنك تدرك أن الذي سيدفع ثمنها ولو بعد حين هو أنت…. إذاً حقيقة الأمر أن من قدم لك هدية قام بشرائها نيابةً عنك لا أكثر، وعندها سوف تشعر بالغيظ عندما يأتيك بما لا يعجبك، أو بما لا يلزمك، وكذلك تشعر بالغيظ عندما يشتري لك تحفة أنت ستدفع ثمنها بالمستقبل على كل حال، بينما لو خيرت لما اشتريتها لأنك بحاجة إلى مالك لأمر أهم.
ثم لو تفكرنا بالمشكلة على مستوى أمة بكاملها، لتخيلنا كم تنفق هذه الأمة ثمن تحف وصور وما شابه في هداياها المتبادلة؛ التي لم تعد تولد الحب في نفوس أبنائها، فالبيوت مملوءة بأشياء لو خير الناس لما اشتراها أحد لنفسه بنفسه، إنما يشتريها فلان لفلان هدية في مناسبة، ثم يشتري له هو بالمقابل مثلها في مناسباته، وبهذا صارت الهدية في مجتمع التقاليد باب إنفاق وضياع للمال فيما لا فائدة منه، وفيما لا نريده لو كان أمرنا بيدنا.
فكم من الناس يحتفظ بما جاءه من هدايا لا يلمسها حتى تبقى جديدة، فيقدمها إلى أصحابه أو أقربائه في مناسباتهم متخلصاً بذلك منها، وموفراً على نفسه ثمن أشياء غير نافعة؟.
اقرأ/ي أيضا: تربية الأبناء على العُرف
إن روح الإلزام قد أفقدت الهدية قيمتها وأثرها في النفوس، وجعلتها بمثابة ضريبة تؤدى؛ مما جعل الواحد منا لا يفرح حق الفرح عندما يكون صديقه في مناسبة سعيدة؛ لأن هذه المناسبة تعني له ضريبة تؤدى على شكل هدية.
ويستطيع القارئ الكريم أن يتفكر في أمثلة أخرى على ذلك، وخاصة مراسيم الخطوبة، والزواج، واحتفالات الزواج، وشروط بيت الزوجية، وما إلى ذلك من تعقيدات، كل من الشاب والفتاة يتمنى تجاوزها، كي يجمعهما بيت واحد صغير بسيط، كما يدعو الإسلام، حيث جعل الإسلام قلة النفقات، وبساطة المراسيم في الزواج، دليلاً على الخير والبركة في هذا الزواج، لا على الفقر، والبخل، ورخص البنت على أهلها كما تدعي التقاليد.