أصبحت روسيا والصين بعد القمة الثنائية بين رئيسَيهما في جبهة واحدة في الصراع مع أميركا.
تدلّ كلّ السياسات الأميركية على أن واشنطن تريد إنزال هزيمة استراتيجية ببوتين وروسيا الاتحادية.
في ضوء السياسات الأميركية، الحرب ذاهبة إلى التصعيد، فالتصعيد، إلى ما لا تحمد عقباه، ما لم تنزل إدارة بايدن عن الشجرة.
أين وصلت حرب أوكرانيا بين روسيا وأميركا، لا سيّما مع استمرار الرئيس الأوكراني، زيلنسكي، في لعب دور مخلب القطّ الأميركي؟
ما كانت الحرب لتندلع لولا رغبة أميركا بذلك، ولولا القرار الاستراتيجي الأميركي بفتح جبهة ضدّ روسيا، من خلال أوكرانيا وعلى أرضها، ولو لآخر أوكراني.
وضعت أميركا بوتين وروسيا أمام حرب وجود؛ أن يكونا أو لا يكونا. لن يسمح بوتين ولا روسيا لأميركا بأن تطيح بهما وتَحقُّق هدفا مجنونا دونه حرب عالمية نووية.
أصرّ زيلنسكي على الانضمام لـ«الناتو» وترجم ذلك بالتسلّح من بريطانيا وأميركا لخوض حربٍ مع روسيا إذا نفّذ بوتين تهديداته، بعد أن حشد جيشاً على حدود أوكرانيا.
تظهر السياسات الأميركية أن هدف واشنطن في حرب أوكرانيا إنزال هزيمة استراتيجية ببوتين وروسيا كدولة كبرى موحّدة ذات شأن في صراع أقطاب العالم.
ماذا دفع أميركا لاختيار طريق الحرب في أوكرانيا ضدّ روسيا والصين وليس الرجوع لاستراتيجية الحرب الباردة من سباق تسلح، وحروب بالوكالة، ووفاق دولي والتفوّق الاقتصادي والمالي والعلمي الهائل في مصلحة الغرب؟
إنزال هزيمة ببوتين وروسيا خطوة ضرورية وأساسية في الحرب مع الصين بل يفسّر لماذا لن تسمح الصين بهزيمة روسيا إزاء الحصار الاقتصادي والسياسي.
* * *
بقلم: منير شفيق
إلى أين وصلت الحرب في أوكرانيا بين روسيا وأميركا، ولا سيّما مع استمرار فولودومير زيلنسكي، الرئيس الأوكراني، في لعب دور مخلب القطّ الأميركي؟
لقد كان من الممكن لهذه الحرب أن تجد تسوية سريعة، أو متوسّطة السرعة، لو كان زيلينسكي يتمتّع بدرجة من الاستقلالية، في الحرص على مصالح الشعب الأوكراني، بعيداً من الانقياد الأعمى للقرار الأميركي، بل كان من الممكن أن يتلافى وقوع الحرب لو فاوض الروس حول حياد أوكرانيا ووحدتها.
لكنه أصرّ على السعي للانضمام إلى «الناتو»، وراح يترجم ذلك بالتسلّح عن طريق بريطانيا وأميركا لخوض حربٍ مع روسيا إذا ما نفّذ بوتين تهديداته، بعد أن حشد جيشاً على حدود أوكرانيا.
لو كان زيلنسكي، الصهيوني الأميركي الولاء، يفكّر، أولاً، في مصلحة أوكرانيا والشعب الأوكراني، لجنّبها الحرب ذات الطابع العالمي، والتي أدّت، حتى الآن، إلى الوضع الكارثي الذي عمّ مدنها، وابتلى شعبها دماراً وخسائر في الأرواح والمادّيات والبنى التحتية.
هذه الحرب ما كانت لتندلع لولا الرغبة الأميركية في ذلك، أو بالأصحّ، لولا القرار الاستراتيجي الأميركي بفتح جبهة ضدّ روسيا، من خلال أوكرانيا وعلى أرضها، ولو لآخر أوكراني.
أمّا الدليل القاطع على هذا القرار الاستراتيجي الأميركي فيمكن أن يُقرأ من خلال متابعة السياسات والممارسات الأميركية والإعلام الأميركي، منذ 20 فبراير/شباط حتى اليوم. فمنذ ذلك التاريخ، راحت إدارة بايدن تصبّ الزيت على نار الحرب، وبتعاون نشط مع رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون.
فقد سخّرت كلّ الإمكانات الأميركية لخدمة الحرب عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، إلى جانب تعبئة عالمية واسعة للغاية، حتى وصل الأمر ببايدن ألا يترك للصُلح مكاناً مع بوتين، بعد وصفه إيّاه علناً بأنه مجرم حرب، ومطالبته بحشد الأدلّة لتقديم الرئيس الروسي إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ومن قبيل الإضافة، أرسل وزير خارجيته بلينكن ونائبته كمالا هاريس، وذهب شخصياً، لتشجيع زيلنسكي على مواصلة القتال، بعد أن بدا من الأخير بعض الضعف في جولات المفاوضات الأولى بين روسيا وأوكرانيا.
باختصار، تدلّ كلّ السياسات الأميركية على أن واشنطن تريد أن تذهب في حرب أوكرانيا إلى هدف إنزال هزيمة استراتيجية ببوتين وبروسيا الاتحادية (كدولة كبرى موحّدة وذات شأن في صراع الأقطاب الدوليين).
وبهذا، وضعت بوتين وروسيا أمام حرب وجود؛ إمّا أن يكونان فيها أو لا يكونان. طبعاً، لا بوتين ولا روسيا يمكن أن يسمحا لأميركا بأن تطيح بهما. وتَحقُّق هذا الهدف المجنون، دونه حرب عالمية نووية. لذا، عندما يُطرح اليوم سؤال: إلى أين وصلت الحرب؟
يأتي الجواب، بالفم الملآن، على ضوء السياسات الأميركية: إنها ذاهبة إلى التصعيد، فالتصعيد، إلى ما لا تحمد عقباه، ما لم تنزل إدارة بايدن عن الشجرة. ومن هنا، ينشأ السؤال: هل سيبحث في نهاية المطاف عن وسيلة للنزول؟
هذا بالطبع دائماً من الممكن، وبالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا بالذات، فهو سهل جداً إذا ما سُمح لزيلينسكي بالتفاوض وتقديم التراجعات المطلوبة.
وهي تراجعات في مصلحة أوكرانيا أولاً، لأن مصلحتها ومصلحة شعبها أن تكون محايدة وصديقة لروسيا وللغرب، كما في عدم التسلّح بما يهدّد الأمن القومي الروسي، والمحافظة على شرق أوكرانيا ضمن وحدة فيدرالية أوكرانية غير متعادية.
على أن الحرب التي تريد إدارة بايدن كسبها ضدّ روسيا، هي حرب في جوهرها ضدّ الصين أيضاً. فروسيا والصين، بعد القمة الثنائية بين رئيسَيهما في 4 شباط 2022، أصبحتا في جبهة واحدة في الصراع مع أميركا، وهذا ما يُفسّر لماذا ذهبت إدارة بايدن إلى المدى المتطرّف الذي سبق ذكره.
فهدف إنزال هزيمة ببوتين وروسيا خطوة ضرورية وأساسية في الحرب مع الصين. كما أنه يفسّر، وسيفسّر، لماذا لن تسمح الصين بهزيمة روسيا، ولا سيّما في مواجهة الحصار الاقتصادي والسياسي والإعلامي الذي يتعرّض له بوتين، فيما البُعد العسكري ما زال شبه مضمون في مصلحة روسيا، بمواجهة زيلنسكي وجيشه ومتطرّفيه، على الأقلّ.
كان من المتوقّع لدى عدد من المحلّلين الاستراتيجيين أن ينتقل الصراع بين أميركا والغرب وحلفائهما من جهة، والصين وروسيا (وآخرين) من جهة ثانية، إلى ما يشبه الحرب الباردة التي عرفها التناقض بين المعسكرَين السوفياتي والأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت في مصلحة المعسكر الأخير عام 1991.
هنا ينشأ سؤال جديد: ما الذي دفع أميركا إلى أن تختار طريق الحرب من خلال أوكرانيا ضدّ روسيا والصين (عملياً وموضوعياً)، وليس الرجوع إلى استراتيجية الحرب الباردة التي اتّسمت بسباق التسلح، والحروب بالوكالة، والوفاق الدولي، إلى جانب التفوّق الاقتصادي والمالي والتكنولوجي والعلمي الهائل في مصلحة الغرب؟
الفارق بين المرحلتَين يكمن في ما تتمتّع به الصين من تفوّق اقتصادي ومالي وتكنولوجي وعلمي بما ينافس الغرب بجدارة، الأمر الذي أفقد الأخير ميزته التي تمتّع بها بوجه المعسكر الاشتراكي في الحرب الباردة السابقة، والتي لعبت دوراً أساسياً في كسبه إيّاه، من دون الانتقال إلى الحرب الحامية، أو شبه الحامية، كما هو حاصل الآن في أوكرانيا.
وبذلك، تكون الحرب الأميركية ضدّ روسيا (والصين) في أوكرانيا الخطوة الاستراتيجية الأولى في معالجة التناقض الأميركي – الصيني، والذي أُعلن من جانب إدارة بايدن أنه التناقض رقم 1 الذي يواجه أميركا.
هذا الخيار العسكري الذي أخذ يطول أمداً، ستَصحبه حرب اقتصادية، كما هو حاصل مع روسيا الآن، وكما سيحصل مع الصين في قادم الأيام، ما يعطي سمات أخرى، تُضاف إلى تلك التي وسَمت الحرب الباردة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي على رأسها حالة الوفاق الدولي طويل الأمد، والذي دام طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وهي فترة كانت كافية لاستبعاد الحرب العالمية من جهة، ولإيصال قيادة سوفياتية لتفسد كالسمكة من الرأس (ظاهرة غورباتشوف ويلتسين) من جهة ثانية. التاريخ لا يكرّر نفسه، ولكلّ عصر سمِاته، ولكلّ صراع دولي سِماته الخاصة به أيضاً.
* منير شفيق كاتب ومفكر فلسطيني، مؤلف كتاب “علم الحرب”
المصدر: الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: