لا يخفى على أحد، بعيداً كان عن دهاليز السلطة السياسية أم قريباً منها أم محشوراً فيها، أن العالم على وشك أن يشهد تدشين نظام دولي جديد أو الإعلان عن إدخال تعديلات جوهرية على جوانب معينة في هياكل النظام القائم ومبادئه.
يُحسب لهذا النظام الدولي ثنائي القطبية وتابعه النظام الأحادي القطبية أنهما حققا استقراراً في العالم على امتداد ثلاثة أرباع قرن واستطاعا معاً إضعاف مكانة الاستعمار ونفوذ دول أوروبا الاستعمارية في النظام العالمي.
إن العالم في كل مرة اقترب سياسيا من وضع معالم نظام دولي جديد كان قد خرج لتوه أو على وشك أن يخرج من حال عدم استقرار طويل الأجل أو عالي العنف والتدمير كالحرب أو الاضطرابات.
*****
بقلم: جميل مطر
أسمع كثيراً عبارة العالم في حال فوضى. أسمع مسئولين في السياسة كما في الإقتصاد وفي الإعلام يُردّدونها وأسمع باعة في أسواق الخضر والفاكهة يلقون عليها باللوم والمسئولية عن جنون الأسعار وغضب الناس. أجدني اليوم أتحدث أو أكتب عن الظاهرتين؛ ظاهرة الفوضى الضاربة في العالم وظاهرة الحديث المتكرر عن ضرورة صياغة نظام دولي جديد، في تعاقبهما اللافت للانتباه. *** أذكر جيداً ـ وأنا طالب دراسات عليا ـ أنه كان من حسن حظي العمل مع أستاذ تخصص طويلاً في دراسة نظريات العلاقات الدولية وأدلى بدلوه فيها من خلال كتب ومقالات نشرت له. كان يقول إن العالم في كل مرة اقترب سياسياً من وضع معالم نظام دولي جديد كان قد خرج لتوه أو على وشك أن يخرج من حال عدم استقرار طويل الأجل أو عالي العنف والتدمير كالحرب أو الاضطرابات.
أظن، وقد ابتعدت شيئاً ما عن سياقات وقاعات الأكاديمية، أن كثيراً مما كان يتردد في زمان دراستي ونعتبره اجتهاداً محموداً، صار في أيامنا الراهنة عِلماً مثبتاً وموثقاً. أتصور، وفي ذهني ما نقرأ ونسمع ونعايش، أننا نعيش أياماً قريبة الشبه في كثير من نواحيها بأيام عاشها العالم قبل انعقاد مؤتمر فيينا في مطلع القرن التاسع عشر، وهو المؤتمر الذي دشّن نظام توازن القوى الأوروبي؛ هذا النظام الذي استمر مهيمناً وفعالاً إلى أن اختلت توازنات القوة في القارة بأول توحيد لألمانيا بقيادة بروسيا، ثم تسربت عناصر وأيديولوجيات الفوضى إلى داخل إمبراطورية النمسا والمجر متسببة في فوضى أكبر وأشمل على امتداد القارة. في الوقت نفسه، دخل الاستعمار عنصراً رئيساً في منظومة العلاقات الأوروبية مثيراً تفاعلات وتحولات شتى انتهت بنشوب الحرب العالمية الأولي.
لم تهتم آنذاك الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة بصياغة نظام دولي جديد يحل محل نظام توازن القوى الذي منع لعقود عديدة نشوب حرب عالمية كبرى. إلا أن أمريكا خلفت مشروعاً لمنظومة حقوق نادى بها الرئيس وودرو ويلسون قبل أن يستجيب لإرادة الانعزال التي هيّمنت على توجهات الرأي العام الأمريكي المتشكك دائماً في نوايا وسلوكيات الدول الأوروبية، وهي النوايا والسلوكيات التي نجحت في النهاية في جذب أمريكا لتصبح شريكاً في حلبة الصراعات الأوروبية وطرفاً في نظام الحرب العالمية.
***
انتهت الحرب وانكشف عجز الأوروبيين عن الانتقال من نظام توازن القوى إلى نظام آخر يضمن استقراراً أطول. سيطر عليهم الحذر من تداعيات الثورة البلشفية والرغبة في الانتقام من الألمان وحرص هؤلاء على استعادة المكانة والقوة. كانت مرحلة من الفوضى الناتجة عن سقوط نظام توازن القوى استغلتها إيطاليا واليابان للتوسع إمبراطورياً في الحبشة والصين على التوالي. اكتملت الفوضى بنشوب الحرب العالمية الثانية وانضمام الولايات المتحدة إليها مدفوعة بنية وضع نظام يضمن الاستقرار ويمنع نشوب حرب عالمية ثالثة. أفلحت الولايات المتحدة. وضعت مشروعاً متعدد الأبعاد لنظام دولي جديد تم إقراره
. ثم أقامت مع الاتحاد السوفييتي قطبية ثنائية استطاعت بدورها حفظ الاستقرار العالمي ضد التعددية وغلوائها التي كشف عن جانب منها نظام توازن القوى عند تطبيقه في القرن التاسع عشر والفترة بين الحربين العالميتين في القرن العشرين. تخللت مرحلة القطبية الثنائية، والمرحلة التالية التي شهدت نظام القطبية الأحادية بعد انفراط الاتحاد السوفييتي، حروباً محدودة شنها قطب أو آخر. شنت أمريكا حربا في كوريا ضمن سلسلة من حروب من داخل نظام القطبين مثل الحرب الكورية وحرب فيتنام.
استغلت أمريكا ظروف نشأة النظام الدولي لتقيم مع الاتحاد السوفييتي دولة إسرائيل على أرض يسكنها شعب فلسطيني. كانت القطبية الثنائية مفيدة أيضا للقطب السوفييتي إذ سمحت له بتعزيز هيمنته الأيديولوجية على دول في شرق ووسط أوروبا وشمال وسط آسيا وفي القوقاز. سمحت أيضا لهما الواحد بعد الآخر بغزو أفغانستان واستغلال ثرواتها من المعادن وغيرها من المواد الخام. ولا ننسى أن أمريكا خلال انفرادها بقيادة العالم زيّفت أو اختلقت معلومات لتشن حرباً ضد العراق ما زال يعيش في ظل آثارها البشعة.
***
على كل حال يُحسب لهذا النظام الدولي ثنائي القطبية وتابعه النظام الأحادي القطبية أنهما حققا استقراراً في العالم على امتداد ثلاثة أرباع قرن واستطاعا معاً إضعاف مكانة الاستعمار ونفوذ دول أوروبا الاستعمارية في النظام العالمي. نجحا أيضاً في إشعال جدال مثمر في شتى القارات وداخل شتى الشعوب حول قضايا إنسانية مثل قضايا حقوق الإنسان ومبادئ الحريات وكذلك قضايا اجتماعية وسياسية مثل الرأسمالية والليبرالية والاشتراكية والعدالة والمساواة. يحسب أيضاً للتنافس داخل النظام ثنائي القطبية الفضل في إثارة أو إنعاش عقائد سياسية من نوع العقيدة القومية ومبدأ السيادة الوطنية والديموقراطية. يحسب لهما في مرحلة القطبية الثنائية وللنظام الأحادي القطبية في المرحلة اللاحقة، شجاعة تحمل مسئولية السماح للصين بالصعود نحو هدف معلن، وهو الوصول للقطبية الدولية أسوة بأمريكا وروسيا. هذا السماح، يجب أن نعترف، لم يكن مطلقاً بل كانت له حدود في الوقت كما في الفعل.
لا ننسى أن زيارة الرئيس نيكسون وهنري كيسنجر للصين كان لها وقع الثورة داخل منظومة العلاقات الدولية، أعقبها بسنوات قليلة اضطرابات في كل أنحاء أوروبا الشرقية انتهت بوضع أشبه ما يكون بالثورة داخل منظومة الاتحاد السوفييتي، القطب الثاني في النظام الدولي قبل أن ينفرط كلاهما نهائياً. كلا الثورتين، زيارة الصين والاضطرابات الشعبية في أوروبا الشرقية مهدتا لنشأة النظام أحادي القطبية.
لسنا بغافلين عن حقيقة هامة. لقد تزامن صعود الصين مع انحدار بعض قدرات أمريكا من ناحية. تزامن من ناحية أخرى مع انفلات ملحوظ في ممارسة أمريكا لقطبيتها الأحادية. أدت كثير من السياسات الخارجية الأمريكية خلال هذه الفترة إلى ما يمكن اعتباره عجزاً في المكانة والنفوذ وبالتالي أضافت إيجابياً إلى سمعة صعود الصين اقتصاداً ومكانة. هذه المرحلة مستمرة بالرغم من انتباه الطبقة السياسية الأمريكية إلى خطورة هذا الانحدار وانعكاسه على مجمل مصالح الدولة. كانت الأزمة المالية منبهاً هاماً وكذلك كان التدهور الملحوظ في علاقات واشنطن بحلفائها الغربيين وبشركائها في العالم العربي. أذكر تماماً ما قاله لي صديق أوروبي مطلع على أوضاع أمريكا في الداخل كما في الخارج. قال نقلاً عن عالم السياسة الكبير صامويل هانتنجتون “أمريكا ليست كذبة. أمريكا خيبة أمل”. كثيرون في أمريكا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط وضعوا ثقتهم في أمريكا ولم تكن أمريكا على مستوى هذه الثقة. كانت ولا تزال بالنسبة لمعظم هؤلاء أملاً، ولكنه الأمل الذي لا يتحقق.
***
حال الداخل الأمريكي لا يبشر بخير وبخاصة بعد نشر الإحصاءات الأخيرة عن العنف وانتشار الأسلحة النارية، وحال العالم الخارجي لا يبعث بالطمأنينة. ففي آخر نشرة للأخبار سمعت من عناوينها أن تركيا تستعد لتتوسع وإسرائيل تواصل قتل الفلسطينيين وإيران تقتل المحتجين والمظاهرات تجتاح حوالي عشر مدن في الصين. وفي فرنسا وألمانيا خرج الآلاف يحتجون على التضخم والجماهير في تونس غاضبة وجماهير الخرطوم عادت إلى الشوارع ومئات الألوف تحتشد في مسيرة غضب في باكستان والأمهات في روسيا تجتمعن للتوقيع على رسالة لبوتين تحمل رفضهن للحرب وفي ليبيا يستعدون لحرب أهلية تستعين بحلفاء أشداء في الخارج.
***
سيل من أخبار يستحق العنوان التالي “الفوضى في كل مكان وحرب عالمية يدور رحاها في أوكرانيا”. يستحق أيضاً الاعتراف بفشل نظام القطبية الأحادية في تحقيق الاستقرار والازدهار، وبالحاجة الماسة إلى مشروع نظام جديد بفكر جديد لقيادة العالم.
*جميل مطر كاتب ومفكر مصري
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: