المعالجة الأمنية لقضية المعارضين بالخارج تسمح لهم بالعودة مقابل الالتزام بوقف الأنشطة السياسية التي تحرج السلطة وتمس بالأمن العام!
لن يكون للمبادرة معنى إذا استمرت السلطة في الممارسات السابقة، سياسة “اليد الممدودة” تحتاج لقفاز حرير لمصالحة الآخر لا قفازا من حديد وكلبشات.
المبادرة بحد ذاتها إقرار من السلطة بأزمة سياسية في البلاد إذ لم ينجح المسار الانتخابي في إنهاء تداعيات الحراك الشعبي وهزة عنيفة أحدثها داخل السلطة.
على السلطة إثبات نياتها الحسنة بالإفراج عن المعتقلين وتحرير المجال السياسي والحد من الضغوط على الإعلام، واحترام حق إنشاء الأحزاب وحرية التعبير والتظاهر.
السلطة الجزائرية وحدها على دراية بمبررات وغايات إطلاق الرئيس تبون لمبادرة “جمع الشمل” وهل القصد معالجة أمنية لاستقطاب المعارضين أم أنها سبيل لتغييرات سياسية وحكومية لاحقة.
* * *
بقلم: عثمان لحياني
لا يُرفض الحوار والتوافق ولم الشمل من حيث المبدأ. تبقى التفاصيل والغايات هي الأكثر أهمية، ذلك أن الحوار كضرورة سياسية وسيلة بناءة إذا صدقت النيّات، لكنه قد يصبح تحايلاً سياسياً إذا كان مجرد تكتيك لتجاوز ظرف، أو نزوة للتهدئة.
في غياب نص واضح ومبادرة صريحة المعالم والأهداف، تبقى السلطة في الجزائر وحدها على دراية بالمبررات والغايات وراء إطلاق الرئيس عبد المجيد تبون لمبادرة “جمع الشمل”، وعما إذا كان المعنى معالجة أمنية لاستقطاب المعارضين، أم أنها سبيل لتغييرات سياسية وحكومية ينوي تبون إقرارها في وقت لاحق.
كما أنها الوحيدة على دراية ما إذا كانت مناورة في مربع مغلق، ومحاولة للتنفيس عن إحباط يسود المجتمع السياسي، واحتقان اجتماعي في الشارع، خصوصاً أن السلطة لجأت هذه المرة أيضاً إلى استخدام رمزية التاريخ، حين ربطت بين المبادرة والاحتفاء بستينية الاستقلال.
مهما يكن، فإن المبادرة في حد ذاتها إقرار من السلطة بوجود أزمة سياسية في البلاد، إذ لم ينجح المسار الانتخابي في إنهاء التداعيات المتولدة عن الحراك الشعبي والهزة العنيفة التي أحدثها داخل السلطة.
لكن السلطة تبدو خجولة في الإقرار بذلك، وهو ما يفسر إطلاق مبادرة سياسية، بدون هوية ولا عناوين واضحة، وهي بصورتها التي طرحت بعيدة عن أن تأخذ شكل مبادرة حوار وطني أو استهداف توافق سياسي.
وما يبرز حتى الآن هو معالجة أمنية لقضية المعارضين الموجودين في الخارج، عبر السماح لهم بالعودة إلى البلاد، مقابل الالتزام بوقف الأنشطة السياسية التي تحرج السلطة، وتمس بالأمن العام.
ومعنى المعالجة الأمنية أن السلطة التي تمنح المعارضين حق العودة بدون محاسبة، لا توفر في المقابل المجال الطبيعي لممارسة العمل السياسي كحق دستوري. يدرك الجميع أن هناك أكثر من 12 مشروعاً للتنظم في أحزاب سياسية أنشأها شباب الحراك، رفضت السلطة الترخيص لهم.
ثمة عبارات وردت في النص التمهيدي للمبادرة تعزز هذا الغموض. فعبارة مثل “من يشعرون بالتهميش”، تبدو موجهة بالأساس الى المجموعات السياسية وغيرها التي كانت تخدم السلطة قبل 2019، ووجدت نفسها على الهامش دون موقع في المسار الجديد.
وهذا يعني أن السلطة تتجه إلى تصالحات داخلية، لأن المعارضة لا تعتبر نفسها في موقع “التهميش”، باعتبار أنها اتخذت الموقع الذي يمليه عليها تصورها للحل السياسي وبإصرار. أما ما يعني المعارضة في النص: “أولئك الذين لم ينخرطوا في المسعى”، فإن السلطة لا تبقي لهم باب الخيارات سوى استتابة سياسية للالتحاق بصف السلطة بمنطق عفا الله عما سلف.
لذلك من حق المعارضين إبداء قدر من التحفظ بشأن غموض المبادرة الرئاسية. ذلك أنه سبق لتبون نفسه أن أجرى سلسلة حوارات مع قادة الأحزاب والشخصيات مباشرة بعد تسلمه السلطة، وعُلقت آمال عريضة على أن تفضي هذه الحوارات إلى واقع سياسي جديد.
لكن العكس تماماً هو الذي حدث، ضاق صدر السلطة وتحرشت بالأحزاب المعارضة، وشهد المجال الإعلامي إحدى أسوأ الفترات في الإغلاق والتضييق. ولذلك يصبح على السلطة إثبات نياتها الحسنة، والتي تعني في السياسة الإفراج عن المعتقلين وتحرير المجال السياسي والحد من الضغوط على الإعلام، واحترام حق إنشاء الأحزاب وحرية التعبير والحق في التظاهر وغيرها، وهي حزمة الجيل الثاني من حقوق الإنسان، فيما بلغت شعوب أخرى الجيل السابع من الحقوق السياسية والمدنية.
لن يكون للمبادرة معنى سياسي وواقعي، إذا كانت السلطة مستمرة في الممارسات السالفة الذكر. سياسة “اليد الممدودة” تحتاج بالأساس إلى قفاز من حرير لمصالحة الآخر، وليس إلى قفاز من حديد وكلبشات.
* عثمان لحياني كاتب صحفي جزائري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: