اختار الفرنسيون انتخاب برلمان جديد معقد في تركيبته، يعاقب الحزب الحاكم وفي الآن ذاته لا يمنح لأحد أغلبية مطلقة.
الرئيس الفرنسي يحصد اليوم ما زرعه، متجسداً في انفضاض بعض الفرنسيين عن يمين ماكروني مقنّع إلى يمين لوبيني متطرف مكشوف الوجه.
يعود نجاح اليمين المتطرف لاستراتيجية ماكرون في إضعاف اليسار واليمين الديغولي، وتذبذب مواقفه من الإسلام والهجرة وشجع صعود شعبية اليمين المتطرف.
خسر حزب ماكرون الحاكم الأغلبية المطلقة تمتع بها رغم انشقاقات وتحولات طرأت على هويته وانقلابات نحو ليبرالية هجينة أقرب لليمين منها للوسط أو اليسار.
* * *
سدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ثمناً باهظاً جراء سلسلة من السياسات الوسطية التي اعتمدها خلال رئاسته الأولى بين أعوام 2017 و2022، فخسر حزبه الحاكم الأغلبية المطلقة التي ظل يتمتع بها رغم الانشقاقات التي شهدها الحزب والتحولات التي طرأت على هويته وأسفرت عن انقلابات جلية نحو ليبرالية هجينة أقرب إلى اليمين منها إلى الوسط أو اليسار.
وكأن الناخبين الفرنسيين، وبمعزل عن نسبة إقبال على التصويت تظل في حكم المتدنية، اختاروا منح ماكرون رئاسة الدولة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سبيل قطع الطريق على منافسته مارين لوبين مرشحة اليمين المتطرف، لكنهم لم يمهلوه فرصة الابتهاج بالنصر فاختاروا انتخاب برلمان جديد معقد في تركيبته، يعاقب الحزب الحاكم وفي الآن ذاته لا يمنح لأحد أغلبية مطلقة.
المعطى الثاني في التشريعيات الفرنسية الأخيرة أن تجمع اليسار، الذي ضمّ حركة “فرنسا الأبية” و”الحزب الاشتراكي” و”الحزب الشيوعي” و”حزب البيئة” وتمكن خلال زمن قياسي من طيّ صفحة الخلافات بين هذه القوى، حقق انتصاراً جلياً تمثل في 131 مقعداً فتأهل بجدارة لاحتلال موقع كتلة المعارضة الأولى.
لكنه من جانب آخر فشل في الهدف الأبرز الذي أعلنه منذ البدء واعتبره رافعة هذا الائتلاف اليساري العريض، أي تحقيق أغلبية نسبية أو حتى مطلقة تؤهل زعيمه جان – لوك ملنشون من انتزاع بطاقة التكليف برئاسة الحكومة.
حزب ماكرون، الذي بدّل اسمه الأصلي من «الجمهورية إلى الأمام» إلى ائتلاف «معاً» وضم حزب الوسط «موديم» والحزب اليميني «أفق»، لم ينجز سوى واجب الحد الأدنى فأرسل إلى الجمعية الوطنية 245 نائباً حسب التقديرات التمهيدية التي لا يلوح أنها سوف تتغير على نحو ملموس، واحتل المرتبة الأولى.
لكنه انتصار بطعم الهزيمة، خاصة وأن عدداً من أقطاب الحزب الكبار المقربين من الرئيس ماكرون شخصياً خسروا مقاعدهم، على شاكلة رئيس البرلمان ريشار فيران ورئيس كتلة الحزب البرلمانية كريستوف كاستنير، فضلاً عن ثلاث وزيرات في الحكومة الراهنة.
المعطى الثالث، ولعله الأخطر مغزى، هو نجاح حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في إيصال 89 نائباً إلى البرلمان، ضمن إنجاز تاريخي لم يبالغ بعض قادة الحزب في تسميته “تسونامي”، خاصة وأنّ هذا العدد الكبير من النواب سيؤهله لتشكيل كتلة برلمانية مستقلة وذلك للمرة الأولى منذ سنة 1987.
وإذا صحّ أن بعض هذا الإنجاز يعود إلى نجاح رئيسته مارين لوبين في التخفيف قليلاً من صورة الحزب العنصرية المتطرفة البغيضة، فإن قسطاً من النجاح يعود إلى استراتيجية مركزية اعتمدها ماكرون منذ رئاسته الأولى وتمثلت في إضعاف اليسار واليمين الديغولي سواء بسواء، وإلى التذبذب الذي طبع مواقفه من الإسلام والهجرة وشجع صعود شعبية اليمين المتطرف.
وبذلك فإن الرئيس الفرنسي يحصد اليوم ما زرعه، متجسداً في انفضاض بعض الفرنسيين عن يمين ماكروني مقنّع إلى يمين لوبيني متطرف مكشوف الوجه.
ولعل رئيسة الحكومة الفرنسية لم تبالغ في إطلاق صفة «الخطيرة» على نتائج التشريعيات الأخيرة، لأن القادم أكثر صعوبة وأشد تعقيداً.
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: