عبَّرت ظاهرة ترامب عن الصراع داخل الحزب الجمهوري بين التيار الليبرالي المحافظ والتيار الشعبوي الذي يمثله.
شهدت السنين الأخيرة انحسار الرخاء الاجتماعي بأميركا وانفجار الساحة السياسية إلى نزعات متصادمة تعكس تفكك المجتمع الأميركي إلى هويات متعارضة.
تركز الصراع السياسي بالمجتمعات الديمقراطية الحديثة بين تصورين متصادمين للعدالة: استند أولهما لمعيار قانوني (مساواة الحقوق والفرص) واستند ثانيهما إلى تصور اجتماعي.
* * *
بقلم: السيد ولد أباه
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقررة في شهر أبريل القادم، يكثر الحديث عن أزمة الديمقراطيات الغربية التي تنعكس في فرنسا في معادلة انتخابية غير مسبوقة تتسم بانهيار كل التشكيلات الكبرى اليمينية واليسارية التي أطَّرت الحياة السياسية منذ ثورة عام 1789.
ليست الحالة خاصة بفرنسا، بل هي بارزة في الدولتين اللتين عرفتا مع فرنسا نفس الانتقال الديمقراطي الجذري في القرن الثامن عشر، أي بريطانيا والولايات المتحدة.
في كتابه الصادر العام الماضي بعنوان «آخر أفضل أمل» يبين الكاتب الأميركي جورج باركر أن الثقافة السياسية الأميركية قامت على مفهوم العدالة في أبعادها المتعددة، وقد صاغت التجربةُ الديمقراطيةُ في القرنين الماضيين المقاربةَ التأليفيةَ لهذه الأبعاد المختلفة (في دوائرها الأخلاقية والمدنية والقانونية) بحسب مطلب «الديمقراطية الشاملة المتنوعة».
بيد أن السنوات الأخيرة التي عرفت انحسار عهد الرخاء الاجتماعي في الولايات المتحدة، شهدت انفجار الساحة السياسية إلى نزعات متصادمة تعكس تفكك المجتمع الأميركي إلى هويات متعارضة، تتركز حول أربع مجموعات قبلية تشكل اليوم أرضية الصراع السياسي المحتدم:
– أميركا الحرة: التي تمثلها أطياف شتى مثل المحافظين الاقتصاديين والتقليديين الدينيين، والشعار الجامع بينهم هو رفض تدخل وتحكم السلطات المركزية العمومية.
– أميركا «الحقيقية» (Real America) التي يمثلها القوميون الأميركيون المسيحيون البيض الذين يعتبرون أنهم مَن أسَّس الأمة الأميركية وأنهم يترجمون هويتَها العميقة وروحَها الخصوصيةَ الثابتةَ، في مقابل دعاة العولمة ورموزها من طبقتي الخبراء والبيروقراطيين.
– أميركا «الذكية» (smart America) التي يمثلها الرابحون من العولمة الاقتصادية وتحرير التجارة الدولية والمستفيدون من الثورة التقنية الصناعية الراهنة، في تصورهم الاستحقاقي للعدالة.
– أميركا «العادلة» (just America) التي يمثلها مَن يرفعون شعارَ الهويات الخصوصية والاعترافَ التمييزي، بالاستناد إلى عناصر العرق والثقافة والتاريخ.
ويخلص باركر إلى أن العقدة الكبرى التي تعاني منها الديمقراطية الأميركية هي تباين وتصادم هذه التصورات المختلفة للعدالة وغياب مشروع سياسي راهن قادر على التأليف والتوفيق بينها. ما نريد أن نبرزه هو أن هذا الجدل السياسي الأيديولوجي ليس خاصاً بالسياق الأميركي، بل نلمسه بوضوح في باقي الساحات الغربية، بل في كل الأنظمة الديمقراطية شرقاً وغرباً.
فإذا كان الصراع السياسي في المجتمعات الديمقراطية الحديثة قد تركز في الماضي بين تصورين متصادمين للعدالة، استند أولهما إلى معيار قانوني بحت (مساواة الحقوق والفرص) واستند ثانيهما إلى تصور اجتماعي (مساواة التوزيع والمغانم)، فإن ما نلمسه راهناً هو انفجار هذه المعادلة في اتجاهين جديدين هما:
– الانفصام داخل التيار الليبرالي بين الطابع الفردي الاستحقاقي للعدالة
– والسياق القومي والوطني الذي يحدد انتماء الفرد الثابت لمجموعة عضوية شاملة.
ومن هنا التناقض المستجد بين ليبرالية كونية متعولمة عابرة للقارات وليبرالية وطنية انكفائية معادية لمحو الحدود وتحرير التبادل من منظور حرية المبادرة ومنطق الانفتاح والتوسع غير المقيد.
– الانفصام داخل التيار الاجتماعي بين اشتراكية الاندماج والرفاهية في سعيها لهدم الحواجز الطبقية وإلغاء الفوارق بين الفئات والمجموعات المتنافرة، وبين سياسات الاعتراف والهوية التي تتبنى مسلك الدفاع عن الانتماءات والكيانات الخصوصية والمجموعاتية من منظور الحقوق الثقافية والعرقية وعدالة الإنصاف والتعويض. ومن الجلي أن هذه الانزياحات الجديدة قد انعكست بقوة على طبيعة تركيبة وتوجهات القوى السياسية في السنوات الماضية.
ففي الولايات المتحدة عبَّرت ظاهرة ترامب (التي لا يمكن القول إنها ظاهرة عابرة) عن الصراع داخل الحزب الجمهوري بين التيار الليبرالي المحافظ والتيار الشعبوي الوطني الذي يمثله الرئيس السابق، في حين يتجسد الصدام داخل الحزب الديمقراطي بين الاتجاه الليبرالي الاجتماعي التقليدي والاتجاه الهوياتي المجموعاتي بوجوهه اليسارية الصاعدة المؤثرة حالياً في إدارة الرئيس بايدن.
وفي فرنسا، انقسمت الجبهة اليمينية إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه محافظ يدافع عن الهوية الثقافية الفرنسية التقليدية، واتجاه شعبوي قومي معاد للتعددية الثقافية وللهجرة، واتجاه ليبرالي يتشبث باقتصاد السوق الحر والعولمة الاقتصادية والتجارية.
كما أن الجبهة الاشتراكية تفككت إلى تيار اجتماعي علماني جمهوري، وتيار مختلف يتبنى مطالب المجموعات الخصوصية والهويات المختلفة وفق خيار «الشعبوية اليسارية» التي يرمز لها اليوم الوجه الصاعد «جان ليك مالانشون».
ويمكن تطبيق هذا النموذج على التجارب الديمقراطية في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، وكذلك الهند واليابان أيضاً، ومن المؤكد أن هذه الحركية السياسية الجديدة ستؤدي إلى تحولات مؤسسية ومجتمعية جوهرية في السنوات القادمة.
* د. السيد ولد أباه أكاديمي موريتاني
المصدر| الاتحاد – أبوظبي
موضوعات تهمك: