توفق الحريري بالأمس حين عرّف اللحظة الحالية بأنها تجمع بين استشراء النفوذ الإيراني وبين استفحال التخبط الدولي.
تتخطى التداعيات استحقاق الانتخابات النيابية في موعده الذي يلتف حوله أكثر من حبل أساساً، وتكاد تتساوى حالياً صعوبة اجرائه مع كارثية عدم اجرائه.
يأتي قرار التجميد الذاتي لمن يشغل موقع الزعامة الأول بين سُنّة لبنان منذ اغتيال والده ليحدث هزة وفجوة بالواقع اللبناني لا يمكن الوقوف على كل تداعياتها.
حُمّل الحريري لسنوات مسؤولية تفريط وتهاون ومساومات أدت لتمدد هيمنة «حزب الله» وشارك في ايصال الحليف الأول للحزب، ميشال عون إلى كرسي الرئاسة.
يمثل انكفاء الحريري ذروة انعدام التوازن الاستراتيجي بين نفوذ إيراني غالب يتحكم بالمفاصل والخيارات الأساسية ونفوذ غربي وعربي متقلب وعاجز عن لجم إيران في لبنان.
* * *
أخيارُ هو أو أمرٌ لا مفرّ منه؟ سؤال لن يكون سهلاً على اللبنانيين وعلى كل المتابعين لأزمات لبنان الإجابة عليه وهم يتناولون قدوم رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري إلى بيروت التي لم يعد يقيم فيها، وإعلانه ما هو أكثر من عزوف عن المشاركة في الانتخابات النيابية العتيدة، بإيثاره تعليق حياته السياسية كفرد وكعائلة وكتيار.
يأتي قرار التجميد الذاتي هذا لمن يشغل حتى الآن موقع الزعامة الأول بين المسلمين السنة في لبنان منذ جريمة اغتيال والده ليحدث هزة وفجوة في الواقع اللبناني لا يمكن من الآن الوقوف على كل تداعياتها.
وهذه التداعيات تتخطى مسألة حصول الاستحقاق الانتخابي في موعد، هذا الاستحقاق الذي يلتف حوله أكثر من حبل أساساً، وتكاد تتساوى حالياً صعوبة اجرائه مع كارثية عدم اجرائه.
بالدرجة الأولى، يتوّج انكفاء الحريري على الصعيد الداخلي تمادي انعدام التوازن الاستراتيجي، بين نفوذ إيراني له الغلبة ويتحكم بالمفاصل والخيارات الأساسية، وبين نفوذ غربي وعربي متقلب وغير قادر على لجم إيران في لبنان.
لقد حُمّل الرجل على امتداد السنوات، سواء من حلفائه السابقين في حلف 14 آذار، أو من قبل المنشقين والمستبعدين من تياره، مسؤولية التفريط والتهاون وسياسة المساومات التي أدت الى تمدد هيمنة «حزب الله». رغم أنه بالمحصلة فقد تشارك كل من «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية» في ايصال الحليف الأول للحزب، العماد ميشال عون إلى كرسي رئاسة الجمهورية.
ومع كل ما يتحمله الحريري وتياره السياسي من مسؤولية جسيمة في عقد تسوية غير شعبية وغير متوازنة، أوصلت عون للرئاسة الأولى، وتشارك بموجبها صهر عون جبران باسيل مع الحريري في ادارة السلطة التنفيذية، وكل ما ارتبط بذلك من صفقات، فإن خروج الحريري من الصورة، في مقابل بقاء كل الزعامات الطائفية الأخرى في مواقعها هو مفارقة مقلقة، تجذّر ما خبره اللبنانيون أيام انتفاضة خريف 2019 التي أدت الى استقالة الحكومة التي يرأسها سعد الحريري من دون أن يطال التغيير أركان الترويكا الآخرين ميشال عون ونبيه بري.
من الخطأ بمكان قياس الارتدادات السنية لتنحي الحريري على المقاطعة المسيحية الشاملة لأول انتخابات نيابية بعد الحرب، عام 1992. يوم كان احتجاج المسيحيين متركزا أساسا على استنسابية قانون الانتخاب، بالإضافة الى خلفية متصلة برفض الوصاية السورية على لبنان.
أما المشكلة التي يطرحها عزوف الحريري اليوم فهي تتجاوز حسابات التمثيل وتقاطع الحصص، لأنها ترتبط بشكل أو بآخر بما إذا كان لا تزال هناك رئة صالحة يتنفس من خلالها اقتصاد لبنان واجتماعه وثقافته، وسط هذه الأمواج الإقليمية المتلاطمة، وقد توفق الحريري بالأمس حين عرّف اللحظة الحالية بأنها تجمع بين استشراء النفوذ الإيراني وبين استفحال التخبط الدولي.
ما بين هذا الاستشراء وذاك التخبط لا يعود السؤال منحصراً بما إذا كان لتيار سياسي من التيارات دور راهن أو أفضل له أن يضع نفسه في الثلاجة، بل يصير السؤال إذا كان للبنان ككل أفق تجديد شروط استمراره واستشراف مخارج للاختناق الذي يكبس عليه من كل حدب.
هناك مع ذلك من يرغب في جرعة تفاؤل، بأن تكلس النظام السياسي ممثلا بقياداته وتيارات جمهوريته الثانية من شأنه مد الحيويات التغييرية مجددا بالطاقة والحياة. يبدو الواقع أصعب من هذا التفاؤل، لكن الواقع أيضاً متحرك ومباغت وينفر من الفراغ.
المصدر| القدس العربي
موضوعات تهمك: