البرازيل: ما تكشفه الكوارث عن أنظمة الحكم!
أنظمة الحكم هي مكان انعقاد التواطؤات بين أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، لتتمكن الماكينة الجهنمية من العمل.
لو عاند ناشطون ولم تنفع معهم الرشى والمناصب ولا التخويف بالإيذاء فهم يفقدون حياتهم بـ”ظروف غامضة” أو بشجارات مختلَقة.
بقلم: نهلة الشهال
ستذكِّركم الرواية التالية بحوادث خبرتموها أو وقعت بالقرب منكم أو في بلادكم. ونقترح على قرّاء هذا النص أن “يتفاعلوا” معه، وهو التعبير (على الموضة) الذي يُقصَد به استكمال النص بسواه، مشابه له أو يخصه.
“التفاعلي” هنا ليس التأثر العاطفي بمأساة الآخرين ولا التشجيع على تعليقات ساخطة وحماسية تندد بجشع الشركات الكبرى والسلطات التي تحميها وتتقاسم معها “المعلوم” (والمستور!).
اقرأ/ي أيضا: مؤتمر وارسو: تناقضات وأبعاد
بل إرسال نصوص، صغيرة أو كبيرة، تروي حوادث من عندنا تشبه هذه، وإن كانت أحجامها أقل بحكم أنْ لا بلد من بلدان منطقتنا هو بكبر وثراء البرازيل – حتى تلك التي تعيش على ريوع النفط الوفيرة – وتنوع إمكاناته وخيراته، وإن كانت أيضاً بلاد الـ”فافيلا” أو مدن الصفيح…
اقرأ/ي أيضا: «المؤرخ» ضاحي خلفان يندد باحتلال المسلمين للأندلس!
نتذكر ما يصيب منطقة الحوض المنجمي في جنوب تونس، أو ما يخص كارثة تلويث وتسميم أنهار العراق التي تتالت فصولها خلال الصيف الماضي وراح ضحاياها بشر كثيرون، قضوا مباشرة أو اعتلّت صحتهم الى الابد، علاوة على محق الثروة السمكية والزراعات. ولا شك أن هناك سوى هذه مما وقع ما بين المغرب الاقصى والخليج العربي.
ليس الموضوع هو اللطم على الضحايا أو البرهان على بؤس الناس الذين يعيشون حيث تقع هذه الكوارث، بقدر ما هو النجاح في الكشف عن الآليات التي تجعلها تقع وتتكرر من دون علاج لأسبابها، ومن دون اكتراث بنتائجها.
اقرأ/ي أيضا: خفايا الحملة الصليببية لترامب
“أنظمة الحكم” ليست “السياسة” التي تصبح في هذه الحالة المجردة تعبيراً غامضاً بل “مشبوهاً”، ومكروهاً من الناس. ليست فحسب المؤسسات السلطوية والقوانين والتشريعات والانتخابات والإعلام والمخابرات والأمن والجيش والبروباغندا الخ..
أنظمة الحكم هي المكان الذي تنعقد فيه التواطؤات بين أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، حتى تتمكن الماكينة الجهنمية من الاشتغال.
اقرأ/ي أيضا: محاكم التفتيش الحديثة
والمثال البرازيلي قابل للاستلهام بخصوص كل شيء.. بل بخصوص الحروب مثلاً!
- * *
الهول هو مقتل ما يتجاوز 350 شخصاً في انهيار سد يحوي 12 مليون متر مكعب من النفايات المنجمية المتحولة طيناً، في ناحية “برومادينو”، متسبباً بطمر وتلويث مناطق شاسعة تقع في ولاية “ميناس جيريس” في جنوب شرق البرازيل، يوم 25 كانون الثاني/ يناير الفائت.
والهول الأعظم منه هو ما كشفه هذا الحادث عن بنية الحكم في البلاد.
السد يتبع منجماً تملكه شركة التعدين البرازيلية العملاقة “فاله”، التي سبق لها أن سجلت انهيار سد آخر عام 2015 في ناحية أخرى من الولاية نفسها (وأربع سدود في العقد الأخير)، إعتُبر في حينها أكبر كارثة بيئية في البلاد، وإن يكن لم يقتل “إلاّ” 19 إنساناً. إلا أن ما سمي حينها “تسونامي الطين السام” تمدد على مساحة 650 كيلومتراً حتى وصل المحيط الاطلسي، مسمماً في طريقه مجرى أحد أهم أنهار البرازيل: الريو دوس.
وقتها وعدت شركة “فاله” بانها ستعطل العمل في السدود الـ19 العائدة لها والمشيدة وفق النموذج نفسه (من أصل 20 ألف سد في البرازيل). ولكنها لم تفعل. فجاءت الكارثة الجديدة بعد أقل من أربع سنوات.
كيف لم تفعل؟
ببساطة، جرى تغيير القانون ليوسع “حقّ” الشركة في الطاقة الانتاجية للمنجم الذي يصب نفاياته في ما صار تلك البحيرة الطينية! وبذا فهي لم تعد مخالِفة للقانون. وأما السر فيكمن في تحكم مجموعات الضغط (اللوبي) بمجلس النواب وبالحكومات المحلية.
في زمن ديلما روسيف كما في زمن ميشيل تامر واليوم في زمن خايير بولسونارو. يدفعون المال للنواب في البرلمان الوطني والبرلمانات المحلية ولسائر المسئولين ويوفرون لهم خدمات شتى، بما فيها تلك التي لا صلة لها بالموضوع المطروح للبحث.
من هو أبرز شخصيات لوبي المناجم؟
هو السيد كوانتاو، أحد أركان حكم الرئيس تامر وحزبه، الذي مولت الشركات المنجمية حملات ترشحه في السابق. لم يُنتخب هذا العام ولكن لا بأس أبداً، فقد التحق بحكومة بولسونارو!
وهو كان مقرر اللجنة التي اُنشأت للتحقيق في انهيار سد العام 2015. وتقول بي بي سي البرازيل أن تقريره حُرِّر في مكتب المحامين التابع لشركة “فاله” المنجمية. وقد نقل السيد كوانتاو الى منصب آخر، بانتظار ان يطوي الوقت الأخبار والانفعالات.
أما وزير البيئة الحالي في البرازيل فينوي معاقبة المفتشين الذين يبدون حماساً كبيراً في عملهم، فهم يعرقلون “الازدهار”.
المناجم تنتج 5 في المئة من الدخل الوطني الإجمالي في البرازيل. بل يدعو وزير الدولة لحقيبة الخصخصة الى “عدم التضحية بشركة فاله لصالح المجتمع”. هكذا حرفياً.
ماذا تفعل الحكومة إذاً في لحظة الكارثة؟
يزور الرئيس المنطقة ويقدم تعازيه للسكان ثم يُعلن القضاء عن “تجميد” 4 مليار دولار من أموال الشركة المنجمية، يرجّح أن يُرفع عنها التجميد متى ما مرت العاصفة.
في 2015، اعلنت الحكومة عن تخصيص 200 مليون دولار لبلدية الناحية المنكوبة.. لكنها لم تصل اليها أبداً نتيجة “عراقيل إدارية”، ثم “نُسيت”.
ولو أصيب بعض الناشطين بالعناد، ولم تنفع معهم لا العروض السخية (الرشوة المالية والمناصب) ولا التخويف (بفقدان الوظيفة أو بما يمس عائلاتهم بضرر)، فهم ببساطة يُصفّون.
يفقدون حياتهم في “ظروف غامضة” أو خلال شجارات محلية مختلَقة. الامثلة على ذلك متوفرة بكثرة في البرازيل، فماذا عن العراق، وعن مصر.
- د. نهلة الشهال كاتبة وناشطة لبنانية رئيسة تحرير “السفير العربي”.
- المصدر: السفير العربي
عذراً التعليقات مغلقة