يتحتم على الفتاوى والقرارات والمعايير الشرعية الصادرة بحقها متابعة وتحديثاً مستمراً الإلمام بواقع المعاملات الرقمية أولاً بأول لتتوافق النظرية مع التطبيق.
التجارة الإلكترونية من أصناف العقود المستجدة، التي لم تكن سائدة بالعصور السالفة لكنها تندرج ضمن مفهوم التجارة العام، التي أباح الشرع التعامل بها.
لا يزال الجدل محتدماً بشأن العملات الرقمية المشفرة بسبب صعود مفاجئ وغير متوقع وهبوطها وتذبذبها وحسمت هيئات الفتوى بدول إسلامية أمرها في منعها وعدم التعامل بها.
* * *
يكتسب الاقتصاد الرقمي والمعاملات الرقمية أهمية متزايدة في وقتنا الحاضر، وخاصة بعد تفشي جائحة «كورونا»؛ حيث يتزايد الاعتماد بشكل كبير على المعاملات الرقمية، وتقديم الخدمات عبر الأونلاين، وكذلك العمل والصحة والتعليم وغيرها.
وسط هذا الانتشار لا بد أن يتوقف فقهاء المسلمين لتمحيص مدى تطابق هذه المعاملات مع الشريعة السمحاء، لكي يطمئن لها مئات الملايين من المسلمين الذين يتعاملون فيها.
في هذا المقال، نتوقف أمام بحث قيّم حول هذا الموضوع أعده الدكتور إبراهيم عبد اللطيف الأعظمي العبيدي، وهو باحث في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بإمارة دبي.
وقد قسّم الدكتور إبراهيم بحثه إلى ثلاثة مباحث، وهي أولاً الاقتصاد الرقمي مفهومه وحقيقته ومزاياه، وثانياً النقود ومراحل تطورها وشكلها ووظائفها في الاقتصاد الرقمي، وثالثاً أهم الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد الرقمي.
وما يهمنا في هذه المقالة هو التطرق لما جاء في البحث الثالث؛ لنبين الرأي الشرعي في المعاملات الرقمية.
لقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي بجدة جواز التعاقد بين شخصين غائبين لا يجمعها مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينها الكتابة أو الرسالة، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسوب، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
كما أجاز قرار مجمع الفقه الإسلامي التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على التعاقد بالهاتف واللاسلكي وبقية وسائل الاتصالات التي كانت سائدة في القرن الماضي، وقد عد المجمع التعاقد بينهما تعاقداً معتبراً بين حاضرين. وقد تم استثناء بعض العقود التي تتطلب توفر شهود مثل عقد النكاح.
وتمثل التجارة الإلكترونية صنفاً من أصناف العقود المستجدة، التي لم تكن سائدة في العصور السالفة، إلا أنها تندرج ضمن مفهوم التجارة العام، التي أباح الشرع التعامل بها.
ولما كانت التجارة الإلكترونية تهدف إلى تحقيق مصالح معتبرة شرعاً، من حيث توفير الجهد والمحافظة على الوقت من هدره وضياعه، والحصول على السلعة بالسعر المخفض المناسب البعيد عن الإسراف، وغيرها من الأهداف الأخرى التي لا تعارضها الشريعة الإسلامية، وإنما تحث عليها وتدعو إليها.
وما يصلح أن يكون دليلاً شرعياً على صحة جواز التعامل بالتجارة بشكل عام، يصلح أن يكون دليلاً شرعياً على التجارة الإلكترونية بالقياس؛ إذ لا فرق بين التجارة بشكلها العام والتجارة الإلكترونية إلا بآلياتها ووسائلها، والتي تختلف من عصر إلى آخر وفق معطيات كل عصر، وبناء على ذلك فإن التجارة الإلكترونية تخضع لما تخضع له التجارة العامة من ضوابط في الشريعة الإسلامية.
وموضوعات التجارة الإلكترونية في الواقع اليوم كثيرة ومتعددة، وقد تفرعت إلى أصناف وأقسام متنوعة، وقد ركزت عليها الكثير من الدراسات، وأولتها من العناية والاهتمام المجال الرحب؛ لما تمثله من دور حيوي في تجارة المستقبل على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول.
وتأتي في مقدمتها مسألة التعاملات المالية في الإنترنت بشكل خاص الذي ناقشه معيار رقم (38) الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية؛ حيث ناقش المسألة بشكل مستفيض، وبين الجوانب المتعلقة بها من مختلف جهاتها.
إذ تناول بيان الأحكام المتعلقة بإبرام العقود المالية باستخدام شبكة الإنترنت، سواء ما تعلق منها بإنشاء المواقع التجارية، أو بتقديم خدمة الاتصال بها، وبيان التكييف الشرعي لإبرام العقود باستخدامها، وتحديد زمان انعقاده بهذه الوسيلة، وبيان ما يتعلق بالقبض من أحكام عند إبرام العقود بالإنترنت، إضافة إلى بيان الأحكام الشرعية بحماية التعاملات المالية التي تبرم عبر الشبكة.
والواقع أن ما يستجد من صور وأشكال التعاملات المالية عبر الإنترنت، في زيادة مستمرة، بحكم التطور الذي فرضته الوسائل التقنية، وعلاقة ذلك وارتباطه الوثيق باقتصاد المستقبل ومدنه الذكية، الأمر الذي يحتم على الفتاوى والقرارات والمعايير الشرعية الصادرة بحقها متابعة وتحديثاً مستمراً للإلمام بواقعها أولاً بأول؛ كي تتوافق النظرية مع التطبيق.
أما بخصوص التعامل في العملات الرقمية، فقد شكلت العملات الرقمية المشفرة وغيرها من العملات الرقمية التي تشترك معها بالمواصفات التي توصف بها، وارتفاعها الكبير المفاجئ، وتحديداً أواخر العام 2017، الرغبة لدى بعض المضاربين في الدخول في عالم العملات الرقمية والسير في فلكها رغم التحذيرات التي صدرت بشأنها والمخاطر الكبيرة للغاية للتعامل فيها.
وقد ساعد في ذلك تسليط الإعلام، وكذلك بعض مراكز البحوث الضوء عليها وتوجيه الباحثين والدارسين نحوها، والذين اختلفت وجهات نظرهم وتفاوتت فيما بينهم، ولا يزال الجدل محتدماً إلى اليوم بشأنها؛ بسبب الصعود المفاجئ وغير المتوقع وهبوطها كذلك، وتذبذبها بشكل عام.
وقد صدرت دراسات مختلفة في بيان ماهيتها وبعض من أحكامها، ولعل من أبرزها الدراسة المختصرة النافعة لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد عبد العزيز الحداد، والتي مال إلى منعها على الأقل؛ في وقتنا الحالي، وبين أن الكثير من هيئات الفتوى في عدد من الدول الإسلامية قد حسمت أمرها في منعها وعدم التعامل بها.
* عدنان أحمد يوسف رئيس جمعية مصارف البحرين، رئيس اتحاد المصارف العربية سابقاً.
المصدر: الخليج – الدوحة
موضوعات تهمك: