السؤال الكبير: لماذا تتضخّم في الدراما العربية نسبة دراما “السرديات الكبرى”؟
عند انهيار الجدار الوهمي بين الحقيقة والخيال، يصبح بعضهم أسير ما يرويه الراوي، وهنا يتصوّر كثيرون أن المال يمكنه شراء الحقيقة!
هذا العام كانت عدة أعمال درامية مصرية، في مقدمتها الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار”، تثير نقاشات واسعة وردود فعل بعضها سجالي إلى حدَّ الصراع.
عندما تصبح السلطة وحدها من يملك إنتاج “السردية الكبرى”، فإن سببًا مهمًا يضاف إلى أسباب تصوّر كثيرين أن السلطة وحدها طريق تحقيق كل شيء!
“المعاصرة حجاب”، فكيف إذا أضيفت إلى المعاصرة حُجُب أخرى كغياب الوثائق والطبيعة السجالية للمواقف أو الفترات بما يجعل أنصاف الحقائق تكريسًا للاستقطاب والانقسام.
دخل الفن معترك “السرديات الكبرى” بمعارك أيديولوجية ودينية وسياسية أشعلت معارك متفاوتة الحدّة، حتى محطة رواية وفيلم “شيفرة دافنشي” اللذين أشعلا معارك بقارّات العالم.
* * *
بقلم: ممدوح الشيخ
روى شاعر العامية المصري الراحل، عبد الرحمن الأبنودي، أنه وهو يجوب جنوب مصر لتوثيق الروايات المختلفة للملحمة الشفوية “السيرة الهلالية”، صادف موقفًا ذا دلالات مهمة. كان يستمع إلى أحد رواة السيرة التي جعلتها طبيعتها الشفوية لا تخلو من اختلافاتٍ بين راوٍ وآخر.
وفي إحدى هذه الروايات كان بطل الملحمة، أبو زيد الهلالي، سجينًا، وتحت التأثير الوجداني الهائل للملحمة والتعلق ببطلها، دفع أحد المستمعين “رشوةً” ليغير مسار الأحداث على نحو “يحرّر” البطل من السجن.
وعند انهيار الجدار الوهمي بين الحقيقة والخيال، يصبح بعضهم أسير ما يرويه الراوي، وهنا يتصوّر كثيرون أن المال يمكنه شراء الحقيقة!
المرض قديم، فقبل ما يزيد عن ألفي عام، قال أرسطو “رواة القصص يحكمون المدينة”، في إشارة إلى التأثير الكبير للسرديات التي يعيش الناس في ظلها.
وحديثًا انشغلت العلوم الإنسانية انشغالًا غير مسبوق بالتدافع بين “السردية الكبرى” و”السرديات الصغرى”، حيث كال باحثون من الشرق والغرب اتهاماتٍ لها أول وليس لها آخر لـ”هوليوود” التي أغرقت العالم بـ “سردياتٍ صغرى” ذات طبيعة استهلاكية.
وخلال عقود مضت في بلادنا وفي العالم، دخل الفن معترك “السرديات الكبرى” بمعارك أيديولوجية ودينية وسياسية أشعلت معارك متفاوتة الحدّة، حتى محطة رواية وفيلم “شيفرة دافنشي” اللذين أشعلا معارك في قارّات العالم.
أخذ تأثير الدراما العربية خلال سنوات صعود تأثير الفضائيات المفتوحة، ومن بعدها “السوشيال ميديا”، شكلا يشبه “الموسم السنوي” في شهر رمضان المعظم. ومع بنية ثقافية اجتماعية يستمدّ فيها شعب معرفته بالعالم من “الشاشة”، دون منافس تقريبًا، تصبح معركة “السرديات الكبرى” أكثر ضراوة.
والمسافة بين “المعاصر” و”التاريخي” مشكلةٌ قديمةٌ جديدة، والتقاليد المدرسية في التعامل مع الحقائق العامة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحكمها قاعدة أن “المعاصرة حجاب”، فكيف إذا أضيفت إلى المعاصرة حُجُب أخرى، كغياب الوثائق والطبيعة السجالية لبعض المواقف أو الفترات، على نحو يجعل أنصاف الحقائق تكريسًا للاستقطاب والانقسام.
وفي الدراما دائمًا هناك التأثير الوجداني الكبير الذي يجعل “ما حدث” دائرة صغيرة داخل دائرة أوسع هي “معنى ما حدث”. وعليه، تعني دراما السرديات الكبرى غالبًا فتح الباب لسجالاتٍ أكبر تستدعي الانحيازات والاختلافات، وتطرح تساؤلات بشأن قضايا مثل: الرواية الأخرى (الغائبة أو المغيبة)، والتوثيق المضاد، والصور النمطية، وثنائية: الأنسنة والشيطنة، و.. فضلا عن استعادة السؤال الكبير: لماذا تتضخّم في الدراما العربية نسبة دراما “السرديات الكبرى”؟
مؤكّد أن القضايا الجادّة مكون لا تستغني عنه أمة، عندما تتسمر الملايين أمام الشاشات الفضية الساحرة، لكن “السبيكة” التي يتكوّن منها العمل الفني تحتاج، عندما يكون موضوع العمل في مساحة المشترك العام، أن تكون شديدة الحساسية للمعادل الدرامي للظواهر المتعينة في العالم الحقيقي، مثل: الجماعات السياسية أو الدينية، أو القوى الاجتماعية، أو الفئات ذات السمات الظاهرية المحدّدة.
وينبغي أن تتكئ صناعة هذه السبيكة، قبل ذلك كله، على حسٍّ إنسانيٍّ يجعل المتلقي شغوفًا بأكثر من أن يكون غاضبًا أو مستغرقًا في مدى “دقة” الحقائق.
“السرديات الكبرى”، وخصوصا على الشاشة، تترك أثرها في عشرات الملايين، وهو ما لا يتوفر في سردية يرويها كتابٌ أو راوٍ جوَّال.
وعليه، يستأهل الأثر وضع التجربة موضع تقييم ونقاش. وخلال هذا العام كانت عدة أعمال درامية مصرية (في مقدمتها الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار”) تثير نقاشات واسعة وردود فعل بعضها سجالي إلى حدَّ الصراع.
وعندما تصبح السلطة وحدها من يملك إنتاج “السردية الكبرى”، فإن سببًا مهمًا يضاف إلى أسباب تصوّر كثيرين أن السلطة وحدها طريق تحقيق كل شيء!
وهي قناعةُ تجعل قضية التغيير في العالم العربي أكثر استعصاءً، فتمحور السياسة حول “مقعد واحد” يجعله يتحوّل إلى “عصا سحرية”، يريد الكل الانفراد بها، ليحصل بها على كل شيء.
و”السردية الكبرى” لكل مجتمع مرآة لثقافته ومُثُلُه وقيمه الحقيقية، وترجمتها بالصوت والصورة يرسل رسائل تحفر عميقًا في العقل والوجدان معًا ممكنات القادم قبولًا تعايشا أو إقصاءً واستبعادا، وفي القصة الواردة في صدر المقال ما يُضحك، وما يُقلق، وفيها ما يدعو إلى التأمل..
* ممدوح الشيخ كاتب وباحث مصري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: