خلافا لمعتقد شائع، لم يكن الشعور القومي الفرنسي حكرا على التشكيلات اليمينية وحدها، بل كان من نصيب فرانسوا ميتران أيضاً.
إذا كنت تسمع عن «فرنسا الوطن» و«أوروبا الأمم» مثلا، بالكاد تسمع عن أوروبا الأوطان. هنا بيت القصيد.. و الشوكة في الخاصرة أيضا!
فرنسا الوطن لها تغلغل في «العجينة» السياسية الفرنسية امتد بها لترجمة فاعلة في المنظومة السياسية المحلية جعلت تيارات سياسية ترسو وترسي الشعور القومي.
«تغيير أوروبا من أجل تغيير فرنسا» شعار وزعته تشكيلة حزب ماكرون “الجمهورية إلى الأمام” على قائمتها الإلكترونية.. لكن هل باستطاعة فرنسا أن تغير مجرى شؤون الساعة؟
في تكوين أوروبا اتحادية سياسية يتجلى التحدي كاملا فهو تحد لا يزال قائما إلى اليوم وقائما أصلا لأن ملامح تشكل أوروبا سياسية معلقة حبيسة بحر متلاطم من التساؤلات المعلقة.
* * *
بقلم: بيير لوي
في كل ليلة، تبث إذاعة فرنسا الثقافية (France Culture) أرشيفات من برامج قديمة أذاعتها مجموعة «إذاعة فرنسا» (Radio France) على مر عقود مضت.
عبرها، يتفاعل المستمع مع سلسلة من مقابلات تتناول جملة لا متناهية من المواضيع، التاريخية، السياسية، الفلسفية، والموسيقية…وكأن «ليالي فرانس كولتور» صورة مصغرة للعالم، ليس مجرد العالم الثقافي الفرنسي، و إنما العالم بالكامل، بشؤونه و شجونه.
ويحدث أن تتناغم هذه البرامج، رغم قدمها، مع تطورات شؤون الساعة الآنية. كأن تقترن مع الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي. فتسمع محاضرة للجنرال ديغول يشرح فيها تأويله للفارق بين فرنسا الأوطان وفرنسا الأمم. لأن العبارتين قد تبدوان متعارضتين على أساس أن الوطن والأمة لا يجريان نفس المجرى الاصطلاحي و لا التأويلي.
فإذا كنت تسمع عن «فرنسا الوطن» و«أوروبا الأمم» مثلا، بالكاد تسمع عن أوروبا الأوطان.
هنا بيت القصيد.. و الشوكة في الخاصرة أيضا..
فلفرنسا الوطن تغلغل وترسيخ في «العجينة» السياسية الفرنسية امتد بها الحال إلى ترجمة فاعلة في المنظومة السياسية المحلية جعلت تشكيلات سياسية وتيارات ترسو وترسي الشعور القومي (patriotism) وخلافا لمعتقد شائع، لم يكن الشعور القومي الفرنسي حكرا على التشكيلات اليمينية وحدها، بل كان من نصيب فرانسوا ميتران أيضاً.
اما أوروبا الأمم، فهي لازمة قديمة أرساها الجنرال ديغول في أدبياته السياسية، وسط صراع تقليدي فرنسي– أنكلو ساكسوني على الاستقلالية لم تكن مغادرة منظومة حلف الشمال الأطلسي سوى تتويج لها.
لا مراء هنا في أن إيمانويل ماكرون يسعى لإعادة أوروبا الأمم إلى السكة، أوروبا مستقلة، أعضاؤها السبع والعشرون في اتخاذ القرارات، لكن في نفس الوقت مؤصلة في فهم مشترك لتقاطع مصالح الأمم، وهو الأصعب.
الأصعب تاريخياً انطلاقا من الموافقات الأدنى، اقتصادية، التي انتهت إليها مراحل بناء الاتحاد، عبر مقولة «دعه يعمل، دعه يمر.»… لكنها مقولة كونت أوروبا اقتصادية، لا سياسية.
فقد بقي تكوين أوروبا اتحادية سياسية. هنا يتجلى التحدي كاملا. فهو تحد لا يزال قائما إلى اليوم، وقائما أصلا لأن ملامح تشكل أوروبا سياسية باتت معلقة و حبيسة بحر متلاطم من التساؤلات المعلقة أيضا:
فماذا عن الهجرة ؟ ماذا عن التشغيل؟ ثم ماذا عن القضايا الاجتماعية الأساسية؟
كل هذه العوامل تساهم متضافرة في نحت معالم سياسة أوروبية جديدة. لكن هذه العوامل متشابكة منذ عقود، على أساس غلبة قاتلة عقيمة تكتب دوما للأيديولوجيا.
وعلى أساس، في أحايين ليست بالقليلة، غلبة الطبيعة الإنسانية المعرقلة لا البناءة، كما لخصها أبوحيان التوحيدي ذات يوم بعبارته الشهيرة: «الإنسان أشكل عليه الإنسان».
«تغيير أوروبا من أجل تغيير فرنسا»! شعار وزعته تشكيلة الجمهورية إلى الأمام إلى أعضائها اليوم في قائمة الإلكترونية..
لكن هل باستطاعة فرنسا، صاحبة الزعامة الأوروبية الجديدة، أن تغير مجرى شؤون الساعة وشجونها بالفعل؟
مرة أخرى: الأيام بيننا…
* بيير لوي ريمون باحث وإعلامي فرنسي
المصدر| القدس العربي
موضوعات تهمك: