مكارم الأخلاق
إنَّ بوصلة الإنسانيّة وأعين البشريّة وقلوب الناس تتجهُ كلّها وتتفق على أنَّ الأخلاق هي القاعدة الأولى في بناء الأمم وازدهارها، فلم يخلُ دينٌ ولم يخلُ قانون على هذا الكوكب من وجود تشريعات في هذه القوانين تنصُّ على ضرورة التحلِّي بمكارم الأخلاق؛ لأنّها سببٌ رئيس في نشوء مجتمع الفضيلة، وقد حثَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على الأخلاق حين قال: “إنَّما بعثتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ” [١]،
وهذا المقال سيتناول شرح هذا الحديث وسيتحدث عن الإيثار في الإسلام بشكل عام. إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق هذه هي رسالة الإسلام، وهذا ما جاء بهِ نبيُّ الرّحمة -صلَّى الله عليه وسلّم- وهذا ما دعا إليه وأتمَّه، وهذه هي المكرمة الأولى، والتشريع الأعظم الذي دعا إليه الإسلام، لأنَّ الإسلام أدركَ وعلِمَ أنَّ بناء الأمم وتقدَّمها وتطورَّها لا يكون إلّا بالأخلاق والفضيلة ونبذِ كلِّ عملِ لا يتوافق مع ما تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة السليمة، فقد حثَّ الإسلام على التحلّي بكلِّ خلقٍ حَسَن، كالصدق والأمانة والوفاء بالعهود والبيع والشراء فيما يُرضي الله تعالى، وهذا كلُّهُ من تمام مكارم الأخلاق التي دَعا إليها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث آخر عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: “لمّا بلَغ أبا ذرٍّ مَبعَثَ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال لأخيه: اركَبْ إلى هذا الوداي، فاعلَمْ لي عِلمَ هذا الرجلِ الذي يَزعُمُ أنه نبيٌّ، يأتيه الخبرُ من السماءِ، واسمَعْ من قولِه ثم ائتِني، فانطلَق الأخُ حتى قَدِمَه، وسَمِعَ من قولِه، ثم رجَع إلى أبي ذرٍّ فقال له: رأيتُه يأمُرُ بمكارِمِ الأخلاقِ” [٢]، فهذا ما أراد النَّبيُّ اتمامه في البشر، وهذا ما دعاه الله إليه، وهذا هو الإسلام دين السماحة والخير والخلق الرفيع. [٣].
ما هو الإيثار
إنَّ الإيثار في الإسلام هو خير دثار من الحبّ والورد والود، وهو كما قيل: لغة العظماء، وهو دليل على رسوخ الإيمان والثقة بما عند الرحمن، وهو علامة حبّ المرء لإخوانه، وبرهانٌ على سلامة النفس من الجشع والأنانية والطمع، فالإيمان يقتضي أن يجود المؤمن بما لديه في سبيل إخوانِهِ، وهذا ما دعت إليه السنة النبوية الشريفة في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- قال: “لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه” [٤]، فهذا الحديث يجسّد أعلى مراتب الإيثار في الإسلام وهو أنْ يحبَّ المسلم لأخيه ما يُحبُّ لنفسه، ومن هنا يمكن تعريف الإيثار على أنّه تقديم المرء غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا، ويقابله الأثرة التي هي استبداد المرء بالفضل واستحواذه عليه دون غيره، والإيثار أعلى درجات المعاملة مع الناس، ويليه العدل وهو اختصاص كل فرد بحقه، وأسوأ درجات المعاملة الأثرة، والإيثار يرفع المجتمع إلى قمة الأمن، لأن أفراده ارتفعوا عن حظوظهم الدنيوية، وآثر بها كلٌّ منهم أخاه، فهو لا يفكر في أن يستوفي حقّه كاملاً فضلاً عن التفكير في الأثرة والاستبداد. [٥].
الإيثار في الإسلام
الإيثار في الإسلام -كما وردَ سابقًا- هو أن يحبّ المسلم لأخيه ما يحبُّ لنفسهِ، وهو من أسمى الأخلاق التي بُعثَ النَّبيُّ -عليه الصّلاة والسّلام- لإتمامِها، والإيثار نقيضُ الأثرة والطمع والجشع في الإسلام، ولأنَّ الإسلام هو أعظم أسباب الراحة النفسيّة في الحياة؛ لأنّه يدعو إلى كلِّ المقاصد السامية الكفيلة بجَعْل حياة الإنسان أكثر استقرارًا، فالإسلامُ حياةٌ سعيدةٌ بما يحمل في طياته من سُموٍّ في العلاقات، ونُكرانٍ للذَّات، وانخراطٍ في الجماعة، ونبذٍ لحبِّ النفس والكِبر والجشع، وحثٍّ على الإيثار ومشاركة الناس بالخير والنفع وحبِّ السعادة لهم، فإنَّ حياةً يؤثرُ الناسُ فيها غيرهم على أنفسهم، لهي حياةٌ سعيدة بكل المقاييس والمعايير؛ لأن القيم المتبادلة هي غذاء الروح الشفيفة، والنفس الرهيفة، ولقد مثّلتْ السنّة النبوية وأهدت للإنسانية أعظم مراتب الإيثار في الإسلام التي ظهرت جليّة في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- قال: “لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه” [٤]، وقد جسّد القرآن الكريم أيضًا أهمية الإيثار خير تجسيد، قال تعالى: “وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. [٦]. [٧].
قصة عن الإيثار في الإسلام
إنَّ الإيثار في الإسلام قيمة عظيمة دَعَتْ إليها السنّة والكتاب، وقد جَسَّدها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في أفعالِهِ خير تجسيد وهذه قصّة من القصص التي تجسّد عظمة الإيثار الذي حملَهُ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- للناس أجمعين: “تبدأ أحداث هذا الموقف عندما اشترى النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قميصًا من أحد الحوانيت، ولدى خروجه استوقفه رجلٌ من الأنصار فخاطبه قائلًا: يا رسول الله، اُكسُني هذا القميص، فلم يتردَّدِ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في خلع القميص، وإعطائه للرجل الذي طلبه، ثمَّ عادَ النَّبيُّ -عليه الصّلاة والسّلام- من جديد، فاشترى قميصًا آخر، ولم يبقَ معه سوى درهمين، وعندما خرج من الحانوت، إذا بجاريةٍ تبكي؛ فقال: لماذا تبكين أيتها الجارية؟ قالت: أعطاني أهل البيت الذين أعمل عندهم درهمين؛ لأشتري لهم طحينًا؛ فأضعتُ الدرهمين، فقال لها النبي الرحيم صاحب القلب الرقيق والنفس السمحة واليد الحانية: خُذي هذين الدرهمين وعودي لأهلك. ذهبت البنت تحمل الدرهمين وهي تبكي فتبعها النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مسائلاً إياها: ولم تبكين؟ قالت: أخشى أن يضربوني، فقال: لا عليك، وذهب معها النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى حيثُ تعمل فسلَّم على أهل البيت، وأخبرهم بقصَّة الخادمة، فسعِدوا كثيرًا بقدوم النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إليهم، وإكرامًا لقدومه أعفَوا أمَتَهم الخادمة من العمل لتصبح حرَّة طليقة”. ولعلَّ هذه القصة تبرز عظمة الإيثار في الإسلام وفي نبي الإسلام محمّد -عليه الصّلاة والسّلام- قدوة البشر أجمعين، وخير خلق الله سبحانه وتعالى، وإنّما تبرز هذه القصة عظمة هذا الدين الذي هو بلسم الروح وشفاء النفس من كلِّ سقم، وهو طهورها من كلِّ درن. [٨].
المصدر| سطور
موضوعات تهمك: