بقلم: حسين شبكشي
أحيانا يقدم المرء على مرارات فيها قدر كبير من الماشوسية (وهي الاستمتاع بتعذيب الذات) دون تفسير معروف، فيقوم بعمل شيء وهو يعلم مسبقا أن في ذلك ضرر كبير عليه ولكنه لا يصغي. ويبدو أن الإنسان مجبول على ذلك منذ أن عصى آدم وحواء الأمر الإلهي «بعدم الاقتراب من هذه الشجرة» فأغواهما الشيطان واقتربا منها وكان الجزاء الطرد من الجنة، أو الصغير الذي يحذره والداه بعدم اللعب بالنار والكبريت فيقوم بإشعالها حتى تحرقه فينال الألم والضرر، وغيرهما من الأمثلة الشبيهة.
كان هذا حالي في ثاني أيام العيد هذا؛ كان عندي سويعات من الوقت أقضيها «مسترخيا»، وحيدا بالمنزل، وبدلا من استغلال ذلك للراحة والتأمل قررت مشاهدة القناة السورية في تغطيتها الخاصة عن الثورة السورية، وشاهدت العجب لأنه حقا لو وضعت أصابعي في «فيش الكهرباء» فالصواعق ستكون أخف.
يحاول الإعلام السوري جاهدا منذ انطلاق أحداث الثورة السورية العارمة في البلاد أن ما يحدث في سوريا هو مؤامرة كونية ضد بلد المقاومة والصمود والتصدي وأن العالم جند مجاميع إرهابية أصولية متطرفة لبث الفوضى والدمار. فيصور النظام المظاهرات ويِأتي بمشاهد ممنتجة بشكل ساذج وبدائي وكأننا نتابع «كليب» في دول متخلفة، فكلما كانت هناك ملامح لعلم وشعار الثورة يتم قطع المشهد بشكل هزلي، ويصور الإعلام السوري مشاهد مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا (والبالغ عدد النازحين إليها 70 ألفا) على أنها معسكرات لتدريب الإرهابيين وإرسالهم لسوريا! ثم يأتون في هذه القناة العجيبة بمحللين سياسيين (هم أقرب منهم لمحللين نفسيين في علم الطغيان والشعوب المسلوبة) فيقول أحدهم إن ما يحدث في سوريا هو «غلطة» الرئيس بشار الأسد وهنا أتحفز أنا في جلستي وأفرك عيني جيدا وأركز وأتعجب كيف سمح الرجل لنفسه أن يقوم بمهمة انتحارية على الهواء ويتهم الرئيس بشار الأسد «علنا» بأنه أخطأ وأصبحتُ كلي فضولا للاستماع لما سوف يقول، فأكمل الرجل قولته وأضاف: «إن الرئيس هو الذي فتح المجال للحريات في سوريا وفتح المجال للرأي الآخر وللديمقراطية وللتجمعات وها نحن في سوريا ندفع ثمن سوء استغلال الشعب لعطايا الرئيس»، ثم لم يستحِ الرجل من نفسه وقرر مواصلة «جهاده» وأضاف درة أخرى من درره وقال بعد أن أخذ نفسا عميقا جدا وأغمض عينيه: «وأقول بصراحة لا تنقصها الشجاعة» وهنا لم أتمالك نفسي من التصفيق له على هذه الجملة الإعجازية لغويا وأكمل الرجل وقال: «إن بشار الأسد هو ضمير سوريا وحاضرها ومستقبلها» وهناك أشفقت على الرجل وعلى مستقبل أسرته وأولاده من سيعولهم وسيكفلهم بعد أن يدفع هو ثمن هذه الشجاعة الاستثنائية.
كل هذا الهراء كان يحصل والمذيع والمذيعة يهزان رأسيهما موافقين ومؤيدين، وكأن الجميع في حالة تنويم مغناطيسي كامل أو تحت تأثير «بنج» كلي. إنه رعب النظام الأسدي الذي حول شعبا بأكمله إلى مصدق لأكذوبة كاملة لعقود طويلة حتى باتوا في حالة من الخوف والرعب مستعدين لترديد الكذبة وراء الأخرى في سبيل الخلاص.
نظام غير قادر على إبراز ماهر الأسد لتوضيح حالته الصحية وغير قادر على إبراز فاروق الشرع نائب الرئيس «المختفي» والذي تم نفي خبر انشقاقه بشكل ركيك وهزلي، هو نفسه النظام الذي كان من اليوم الأول يحيك الكذبة وراء الأخرى بشكل كوميدي وهزلي، وهو يذكرني بالزخم الإنتاجي الدرامي للمسلسلات السورية التي ملأت الشاشات العربية عن استبداد الحكم الفرنسي أيام الاحتلال واستبداد الحاكم التركي وفساد الحكومات الأولى بعد الاستقلال فيما حكومات البعث والأسد وابنه فيها من الظلم والاستبداد والفساد ما هو أضعاف مضاعفة عن كل ما سبق، ولكنه الإعلام السوري البائس المبني على الكذب و«بيع» الوهم للناس.
ولكن كل الأقنعة سقطت والعورات قد انكشفت ولم يعد يفيد «الحكي» أبدا. أما أنا فكان عليّ تعويض الوقت الذي قضيته مع الشاشة السورية وأصابني بالغثيان وتقلب في الأمعاء لعلي أتعظ ولا أكرر هذا الخطأ أبدا مجددا.
بعد سقوط نظام الأسد قريبا أقترح الإبقاء على المحطة الفضائية السورية «كما هي»، فهي ستكون علاجا للاكتئاب وآلام المعدة لقطاع كبير من المشاهدين الذي سيؤمنون بمقولة: الذي يرى مصائب غيره تهون عليه مصائبه.