ماذا لو استفادتِ القطاعاتُ الصحيّة في بلدان العالم كافّة من فائض موازنات الأمن والدّفاع التي تقرّرها الدّول؟
ثمّة فائض في الإنفاق الدّفاعيّ قد لا يكون مبرَّراً دائماً من زاوية المصلحة العامّة أو المصلحة الوطنيّة وتوازن القطاعات الاجتماعيّة الحيويّة.
فائض الموازنات الدّفاعيّة كان يمكن أن يُبَرْمَج للصّرف على برامجَ التّنميّة أجزلِ فائدةً من غير أن يُحْدِث ذلك عجزاً في تغطيّة الحاجات الدّفاعيّة.
أما كان يمكنها توفير أسباب الأمن الصّحيّ لشعوب الأرض فتنقذ حياة ملايين ممّن يقضون لنقصٍ الرّعاية الصّحيّة والدّواء أو لضَعْف بنيات العلاج والاستشفاء؟
أما كان يمكن هذه القطاعات الصحيّةَ أن تصمد أكثر بمواجهة الأوبئة وأن تحتاز أسباب السّيطرة على انتشاره والحدِّ من قوّةِ فتكه، وربّما القضاء عليه؟
الإنفاق العالميّ على الأمن والدّفاع يلتهم حصصاً هائلة من موازنات الدّول كان يمكن تسخيرها لتطوير برامج التّنميّة الإنسانيّة من تعليمٍ، وسكنٍ، وصحّةٍ وغير ذلك.
قوى التّصنيع العسكريّ في الغرب لها لوبيات بمراكز القرار تدافع عن مصالحها، وتوجّه سياسات الدول العليا نحو خيارات استراتيجيّة يقع الأمن والدّفاع بمركزها.
* * *
بقلم: د. عبد الإله بلقزيز
ماذا لو استفادتِ القطاعاتُ الصحيّة في بلدان العالم كافّة من فائض موازنات الأمن والدّفاع التي تقرّرها الدّول؟ أما كان يمكنها بذلك أن توفّر أسباب الأمن الصّحيّ لشعوب الأرض، فتنقذ حياة الملايين ممّن يقضون لنقصٍ في شروط الرّعاية الصّحيّة، أو لنقصٍ في الدّواء، أو لضَعْف بنيات العلاج والاستشفاء؟
أما كان يمكن هذه القطاعات الصحيّةَ أن تصمد أكثر في مواجهة ضغط وباء كورونا، مثلاً، وأن تحتاز أسباب السّيطرة على فُشُوّه والحدِّ من قوّةِ فتكه، وربّما من القضاء عليه؟
قلنا فائض الموازنات ولم نقل الموازنات لسببين:
أوّلهما؛ لِعِلْمنا أنّ الأمن والدّفاع سيظلاّن، حتّى إشعارٍ آخر، من أُولى أولويّات الأمم والدّول في عالمٍ مزدحم بالأزمات ومشكلات المصالح المتنازعة وخلافات الجوار؛ وسيظلاّن من أبجديّات سياسات الأمن الاجتماعيّ والأمن القوميّ، ومن أسباب تأمين الاستقرار الاجتماعيّ والسّلم المدنيّة وحِفْظ السّيادة الوطنيّة من مخاطر أيِّ انتهاكٍ لها أو نيْلٍ منها. وهذه جميعُها تفترض الإنفاق على الأمن والدّفاع في أيّ دولة.
وثانيهما؛ لأنّ من حقائق الإنفاق العالميّ على مجاليْ الأمن والدّفاع أنّه يلتهم حصصاً هائلة من موازنات الدّول كان يمكن تسخيرها لتطوير برامج التّنميّة الإنسانيّة من تعليمٍ، وسكنٍ، وصحّةٍ وسوى ذلك، الأمرُ الذي يستفاد منه أنّ ثمّة فائضاً في الإنفاق الدّفاعيّ قد لا يكون مبرَّراً دائماً من زاوية المصلحة العامّة أو المصلحة الوطنيّة وتوازن القطاعات الاجتماعيّة الحيويّة.
لهذا نزعُم أنّ فائض الموازنات الدّفاعيّة كان يمكن أن يُبَرْمَج قصد الصّرف على برامجَ للتّنميّة أجزلِ فائدةً من غير أن يُحْدِث ذلك عجزاً في تغطيّة الحاجات الدّفاعيّة.
وهذه الحقيقة أشدُّ بياناً ووضوحاً في حالة البلدان التي تعاني نقصاً فادحاً في إجابة حاجات التّنميّة الاجتماعيّة لديها من قبيل إقامة نظامٍ تعليميّ قوي ومنتِج، يشمل أوسع فئات الشّعب، ويوفّر التّأهيل العلميّ الضّروريّ للموارد البشريّة.
ومن قبيل إرساء نظامٍ صحّي فعّال يغطّي المناطقَ والفئات الاجتماعيّة جميعَها، ويوفّر العلاج المناسب والرّعاية الصّحيّة الكاملة للمواطنين، هذا عدا عن الحاجة إلى الإنفاق على البحث العلميّ، وعلى برامجَ لتوفير الشّغل للعاطلين، ولمحاربة الفقر والتّهميش والسّكن غير اللاّئق… إلخ.
ومعظم بلدان العالم، وهي من الجنوب – ومنها بلدان الوطن العربيّ والعالم الإسلاميّ، من تلك التي تمتصّ موازناتُها الدّفاعيّة الحصص الأكبر من مواردها الماليّة، ومن التي تعاني خصاصاً فادحاً في برامج التّنميّة لا يمكن تغطيته بغير توظيف ذلك الفائض فيها، وتصحيح الخلل في بنية توزيع الموارد بين القطاعات الاجتماعيّة.
مَرَدُّ هذه المعادلة: معادلة الفائض (في قطاعٍ بعينه/الخَصَاص (في قطاعات أخرى عدّة) ليس فقط إلى حاجات موضوعيّة تفرِض ذلك، من قبيل أولويّة الأمن القوميّ والأمن الاجتماعيّ على غيرهما – كما قد يُظَنّ – بل إلى الخيارات السّياسيّة الرّسميّة التي ترجّح كفة هذا القطاع على غيره، وتخصُّه بحاجته – وبما يزيد عن حاجته – من الموارد الماليّة.
والحقّ أنّ مثل هذه الخيارات – وهو الملحوظ في الأعمّ الأغلب من دول العالم – ناجمٌ، في المقام الأوّل، من المكانة الاعتباريّة الكبرى التي يحتلّها مستشارو الأمن والأمن القوميّ في أنظمة الدّول، والتّأثيرات الهائلة التي لأفكارهم ورؤاهم في صناعة القرار، مقارنةً – مثلاً – بمكانة خبراء التّنميّة والتّعليم والصّحّة والغذاء والبحث العلميّ، في أجهزة الدّولة، وبمدى مساهمتهم في صناعة القرار وفي رسْم سُلَّمٍ لأولويّات الدّول وسياساتها العليا. وهذه ظاهرةٌ تكاد أن تكون عامّة حتّى في دول الغرب نفسها.
ولقد نفهم لِمَ تكون لهؤلاء تلك المكانة وذلك التّأثير في دول الغرب، وخاصّةً تلك التي لديها تصنيع عسكريّ متطوّر وجاهز للتّصدير، ولتقوية موارد الاقتصادات القوميّة.
ففي مثل هذه الدّول من الطّبيعيّ أن يكون لقوى التّصنيع العسكريّ لوبيات في مراكز القرار تدافع عن مصالحها، وتوجّه السّياسات العليا للدّول نحو خيارات استراتيجيّة يقع الأمن والدّفاع موقعَ القلب منها.
فوق ذلك يصبح ما تنفقه الدّولة على قطاع الدّفاع أشبه ما يكون بالاستثمار فيه؛ الاستثمارَ الذي يُدرّ عليها أَجْزَلَ العوائد الماديّة (من تصدير منتوجاتها من الأسلحة). هذا عدا عن أنّ تلك الدّول المتقدّمة خطت خطوات هائلةً في مضمار التّنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ فلا فقر يفتك بمواطنيها ولا تهميش ولا فاقة.
أمّا في دولٍ الجنوب – مثل دول العالميْن العربيّ والإسلاميّ – فلا يمكن فهم مثل تلك المكانة التي يحتلّها هؤلاء، والتي لا تترجم نفوذاً للصّناعة العسكريّة في البلاد، ولا تفتح أفقاً أمام تعظيم المصالح الاقتصاديّة العامّة!
* د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر: الخليج – الدوحة
موضوعات تهمك: