- أدت تركيا دورا محوريا خلال الحرب الباردة بما أدى لانتصار الولايات المتحدة والغرب على الاتحاد السوفياتي.
- تشهد العلاقات الأميركية التركية تعقيدات مؤخراً على خلفية أربع مسائل أساسية.
- خسارة تركيا كحليف للغرب تعني وضع الشرق الأوسط على عتبة أوروبا وإلغاء الحاجز المحتمل أمام التوغل الروسي في قلب الشرق الأوسط.
بقلم: محمد المنشاوي
“لم تؤدِ أي دولة الدور المحوري الذي لعبته تركيا خلال الحرب الباردة بالنسبة لأميركا، بما أدى في النهاية إلى انتصار الولايات المتحدة والغرب على الاتحاد السوفييتي”.
بهذه الكلمات علّق دبلوماسي أميركي سابق على أهمية تركيا للاستراتيجية الأميركية، سواء داخل حلف شمال الأطلسي، أو لتأمين المصالح الأميركية والغربية في أوروبا والشرق الأوسط.
إلا أن الفترة العصيبة التي تمر بها علاقات أنقرة وواشنطن الثنائية، لم تترك العاصمة الأميركية إلا أكثر انقساماً حيال إحدى أهم الدول ذات النفوذ ليس فقط في الشرق الأوسط، إذ يمتد نفوذها إلى جنوب القارة الأوروبية ووسط القارة الآسيوية.
ولم يكن باليسير تفهّم منطق وخطوات إدارة دونالد ترامب التصعيدية، والتي يرى البعض أنها جاءت رداً على عدم وفاء الرئيس التركي رجب أردوغان بوعده، في إطار صفقة أكبر، بالإفراج عن القس الأميركي، أندرو برانسون، الذي يُحاكم منذ سنتين في تركيا على خلفية اتهامات له بالتجسس والإرهاب والارتباط بحزب العمال الكردستاني وبالداعية فتح الله غولن.
ويعتقد الكثير من خبراء الشأن التركي في واشنطن، أنه لا يمكن للولايات المتحدة التضحية بعلاقة التحالف الاستراتيجي مع تركيا لمواجهة النفوذ الروسي أو الإيراني المتصاعد في منطقة شرق البحر المتوسط، إلا أنهم لا يعرفون سبيلاً للخروج من هذه الأزمة المتصاعدة.
خلافات هيكلية أم أزمة عابرة؟
في دراسة صدرت عن خدمة أبحاث الكونغرس بتاريخ 6 يونيو/حزيران الماضي، أشار الباحثان المتخصصان في الشأن التركي جيم زانوتي وكلايتون توماس، إلى أنه رغم أهمية الدور التركي في خدمة مصالح واشنطن الاستراتيجية منذ انضمامها لحلف الأطلسي عام 1952، إلا أن العلاقات تشهد تعقيدات مؤخراً على خلفية أربع مسائل أساسية:
أولها تبعات محاولة الانقلاب في تركيا منتصف يوليو/تموز 2016، وما فهمته الدوائر التركية الرسمية من عدم ممانعة واشنطن الإطاحة بنظام أردوغان، وما تبع ذلك من رفض إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وإدارة ترامب تسليم زعيم حركة “الخدمة” فتح الله غولن الذي يحمل إقامة دائمة في الولايات المتحدة، وتتهمه أنقرة بالتخطيط للانقلاب الفاشل.
ثانيها تطور العلاقات التركية الروسية عسكرياً، وهو ما يظهر في رغبة تركيا الحثيثة بالحصول على نظام صواريخ الدفاع الجوي “إس 400″، ويحاول الكونغرس ثني تركيا عن المضي في هذه الصفقة بلا نجاح حتى الآن.
ثالثها تناقض الموقف من أكراد سورية، إذ ترى أنقرة أن واشنطن تدعم أحد أذرع حزب “العمال الكردستاني” الذي تصنّفه تركيا والولايات المتحدة بأنه إرهابي. وتدعم واشنطن تسليحاً وتدريباً، مليشيات كردية في شمال سورية (وحدات حماية الشعب)، وهو ما أدى لخلافات كبيرة بين الدولتين وكاد أن يتسبب بمواجهات عسكرية، بعدما هدد أردوغان الوجود الأميركي العسكري المؤيد للأكراد في شمال سورية.
رابعها سياسات أردوغان الداخلية عقب عملية الانقلاب الفاشلة، والذي ذهب فيها لاعتقال الآلاف ممن تتهمهم الدولة بالمشاركة في المحاولة الانقلابية. وامتدت الإجراءات الحكومية التركية لتطال وسائل إعلام ومنظمات مجتمع مدني.
وهو ما أدى إلى زيادة العداء لأردوغان ولسياساته في واشنطن، خصوصاً بين وسائل الإعلام الأميركية، وبين الجهات الحقوقية والمنظمات غير الحكومية.
إلا أن الدراسة نفسها أشارت بوضوح إلى أهمية الوجود الأميركي العسكري داخل تركيا، بوصفها عضواً رئيسياً في حلف شمال الأطلسي. وركزت الدراسة على قاعدة أنجرليك في الجنوب التركي، والتي يتواجد فيها تقليدياً 2500 عسكري أميركي للقيام بمهام عسكرية في أفغانستان أو العراق أو سورية.
وطرحت الدراسة تساؤلاً عن البدائل العملية لهذه القاعدة والتي لا تؤثر على المجهود العسكري الأميركي في هذه المنطقة المضطربة من العالم.
ونالت قضية القس برانسون، إضافة إلى أكثر من عشرين مواطناً أميركياً من أصول تركية، من بينهم ثلاثة من العاملين في السفارة الأميركية بأنقرة، ممن شملتهم اعتقالات ما بعد المحاولة الانقلابية، حيزاً كبيراً لتبعاتها السياسية الهامة على الداخل الأميركي، ولما تمثّل من أزمة خطيرة في العلاقات بين الدولتين.
ويرى الدبلوماسي الأميركي السابق أنه “رغم تقلّب العلاقات بين واشنطن وأنقرة خلال الأعوام الماضية، إلا أن الأوضاع الحالية تتخطى ما عرفناه من خلافات بين الشركاء في الماضي، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة على الدولتين ومصالحهما المشتركة”.
من جهة أخرى، يعتبر الباحث ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية، في دراسة نشرتها مجلة “فورين بوليسي”، أن تركيا لم تعد حليفاً للولايات المتحدة، فهي تقوم بكل ما تستطيع للالتفاف وعرقلة العقوبات المفروضة على إيران، وتقترب سريعاً من روسيا.
إلا أن السفير السابق والباحث بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، جيمس جيفري، يرى في دراسة له أن “الانفصال عن تركيا سيكون بمثابة إيذاء ذاتي متعمّد لمصالح واشنطن. فتركيا لا تقتصر على أردوغان فحسب، بل هي عملاق جغرافي واقتصادي في المنطقة يؤدي دور الفاصل بين أوروبا والشرق الأوسط، وبين الشرق الأوسط وروسيا”.
ويضيف: “خسارة تركيا كحليف للغرب تعني وضع الشرق الأوسط على عتبة باب أوروبا، وإلغاء الحاجز المحتمل أمام النفوذ الروسي، بما يسمح لهذا الأخير بالتوغّل إلى قلب الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك، تُعد تركيا دولة في أفضل وضع يؤهلها لتحقيق التوازن مع إيران التي تتعاظم طموحاتها ونفوذها بالتزامن مع شراكتها مع روسيا، من هنا فإن المصلحة متبادلة بين البلدين، فمن دون الولايات المتحدة، ستصبح تركيا تحت رحمة روسيا وإيران”.
أندرو برانسون … قضية مواطن أم أكبر؟
لا تتحدث الإدارة الأميركية عن القس المعتقل في تركيا أندرو برانسون بصفته مواطناً أميركياً بالأساس، بل بصفته قساً إنجيلياً. وغرد ترامب في وقت سابق قائلاً إن بلاده لن تدفع شيئاً لتركيا من أجل إطلاق سراح القس برانسون، والذي وصفه بـ”الرهينة الوطني العظيم”.
وأضاف ترامب “أن تركيا استغلت الولايات المتحدة لسنوات عديدة، وتحتجز الآن قساً مسيحياً أميركياً بريئاً”. وقبل ذلك أشار ترامب في تغريدة سابقة إلى عزم بلاده محاسبة تركيا لاحتجازها برانسون لمدة طويلة، واصفاً الأخير بأنه “قس مسيحي عظيم ورب عائلة وإنسان رائع”، وطالب أردوغان بالإفراج فوراً عن “رجل الإيمان البريء”.
قبل ذلك، هدد نائب الرئيس الأميركي مايك بينس خلال مؤتمر الحريات الدينية، الذي انعقد في واشنطن الشهر الماضي، تركيا بعقوبات اقتصادية قاسية إذا لم تتحرك فوراً لإطلاق سراح القس وإعادته إلى بلاده.
وقال بنس “أوجه باسم رئيس الولايات المتحدة رسالة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والحكومة التركية مفادها: عليكم إما الإفراج عن القس أندرو برانسون أو الاستعداد لمواجهة عواقب ذلك”.
ويعتقد الدبلوماسي الأميركي السابق أن “ترامب ونائبه بينس يستغلان القضية من أجل ضمان الحصول على أصوات الإنجيليين المتديّنين في انتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل”.
والمعروف أن نائب الرئيس هو أحد أهم السياسيين المنتمين للطائفة الإنجيلية الأميركية في إدارة ترامب، ولا يترك أي مناسبة إلا ويعبّر عن انتمائه الديني والتزامه المسيحي، وهو ما يجذب الكثير من أنصار ترامب من المحافظين المتشددين.
ومن المقرر إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس خلال الأسبوع الأول من نوفمبر المقبل، وهي شديدة الأهمية لترامب الذي يتمتع حزبه الجمهوري بأغلبية في مجلس النواب ومجلس الشيوخ وسيسعى للحفاظ عليها في تلك الانتخابات الهامة.
تدخّل الكونغرس
تحدث مسؤول أميركي لصحيفة “واشنطن بوست” رافضاً إي إشارة إلى إمكانية تسليم فتح الله غولن مقابل إفراج تركيا عن القس برانسون.
كما ذكر مسؤول أميركي لمحطة “سي إن إن” أن تركيا أخلّت بصفقة اتفق عليها ترامب وأردوغان، خلاصتها أن تساعد واشنطن في الإفراج عن مواطنة تركية محتجزة في إسرائيل بتهم مساعدة “حماس” وتدعى إبرو أوزكان مقابل الإفراج عن برانسون.
وبالفعل تم الإفراج عن أوزكان منتصف الشهر الماضي، وانتظرت واشنطن الإفراج عن برانسون، وهو ما لم يحدث، بل جددت محكمة تركية اعتقاله بانتظار إصدار حكم نهائي في 12 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك قبل نقله ليخضع للاعتقال المنزلي.
لم تنتظر واشنطن طويلاً، فجاء إعلان ترامب عن فرض تعريفات جمركية مقدارها 20 في المائة على صادرات الألومنيوم و50 في المائة على صادرات الحديد التركي، وأضاف ذلك ضغوطاً كبيرة على توازن الليرة التركية التي زاد انخفاضها بعد هذه القرارات لتتجاوز الست ليرات مقابل الدولار الأميركي.
وتُعدّ تركيا سادس أكبر منتج للحديد في العالم وثامن أكبر مصدّر له للولايات المتحدة طبقاً لبيانات وزارة التجارة الأميركية بما يزيد عن 1.7 مليار دولار سنوياً.
كما أقرت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين على خلفية دورهما في اعتقال برانسون، وهو ما ردت عليه أنقرة بعقوبات مماثلة وتعريفات على العديد من المنتجات الأميركية، بل إن أردوغان اتهم واشنطن بشنّ حرب اقتصادية على بلاده.
ثم جاء تدخّل الكونغرس على خط الأزمة ليدعم موقف الإدارة الأميركية في حالة نادرة خلال حكم ترامب. وبأغلبية كبيرة وصلت إلى 87 صوتاً مقابل 10 أصوات، وافق مجلس الشيوخ على مشروع قانون معدّل لميزانية وزارة الدفاع لعام 2019 علّق بمقتضاه توريد 100 طائرة من طراز “إف 35” إلى أنقرة، رغم دفع تركيا ثمنها، إلى أن يقدّم البنتاغون تقريراً عن العواقب المحتملة لإلغاء الصفقة على العلاقات الأميركية التركية.
وطالبت تعديلات الكونغرس بالإفراج الفوري عن برانسون. ثم وافق مجلس الشيوخ بالإجماع، وهو ما يحدث في حالات نادرة، على مشروع قانون يهدف لحرمان تركيا من الحصول على قروض من المؤسسات المالية الدولية، لحين قيام أنقرة بإنهاء “احتجازها غير العادل لأميركيين”.
هل من بديل؟
وجاء توعّد وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين، يوم الخميس الماضي، بفرض بلاده مزيداً من العقوبات على تركيا إذا لم يتم الإفراج سريعاً عن القس برانسون، ليشير إلى صعوبة إنهاء الأزمة الحالية في القريب العاجل.
قبل ذلك بيومين أشارت المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، في ردها على سؤال حول رد الفعل إذا أفرجت تركيا عن القس، قائلة إن “الضريبة الحالية للصلب لا يمكن رفعها عبر إخلاء سبيل القس برانسون، لأن ذلك من أمننا القومي”.
لتشير إلى عدم وجود مخرج سهل للأزمة بين أنقرة وواشنطن، خصوصاً مع “تواجد رئيسين يمتلكهما إحساس كبير بالذات ويستخدمان خطابات شعبوية مشابهة كل لقاعدته الانتخابية المتشددة والقومية سواء في تركيا أو الولايات المتحدة”، طبقاً لرؤية الدبلوماسي الأميركي السابق.
ورغم استغلال ترامب وأردوغان الأزمة لتقوية قواعدهما الشعبية، بادر أردوغان إلى نشر مقال في صحيفة “نيويورك تايمز” قبل أيام ذكّر خلاله الرأي العام الأميركي بسجل بلاده الداعم للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وأشار إلى قتال القوات التركية بجوار القوات الأميركية في أفغانستان، ودعم بلاده لحرب واشنطن على الإرهاب الدولي.
إلا أن أردوغان حذر في الوقت نفسه من احتمال خسارة واشنطن الحليف التركي إذا استمر نهج الإدارة الحالية العدائي تجاه بلاده، وأشار إلى وجود بدائل للحليف الأميركي قد تلجأ إليها تركيا عند الضرورة.
ويُعدّ خروج الخلافات بين الدولتين إلى العلن شيئاً إيجابياً، كما يعتقد الباحث ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية، والذي يشكك في كون تركيا “حليفاً لواشنطن”. وضاعفت التغريدات والهجمات الخطابية والعقوبات بين أنقرة وواشنطن من صعوبة إيجاد طريق سهل لإنهاء الأزمة.
إذ “لم يعد خبراء واشنطن يعرفون ماذا يمكن أن يحصل عليه أردوغان من واشنطن إذا ما تم الإفراج عن القس برانسون، خصوصاً مع وجود إدارة أميركية يصعب توقع سلوكها ورد فعلها”، كما يقول الدبلوماسي الأميركي السابق.
- محمد المنشاوي كاتب صحفي في الشؤون الأميركية من واشنطن.