المطلوب تفكيك شيفرة الذات الوطنية بهدف المضي قدما وإعادة بنائها بدلا من تدميرها.
إذا لم تكن تلك عدمية من نخبة المسؤولين في المشهد اليوم أو المستفيدين من ذلك المشهد فما هي العدمية؟
ثمة شريحة مبدعة جدا في إنكار الواقع الموضوعي ولديها مهارات في تغليف وتزويق هذا الإنكار بمعنى تضليل القيادة والمؤسسات والرأي العام معا.
المسؤول الأكبر يريد دوما الإصغاء لبيروقراطيين وهم يعزفون أنشودة «كله تمام سيدي» بينما لا يوجد شيء تمام لا في العالم اليوم ولا في الأردن.
هناك شريحة أخرى تعزف الأغاني والموسيقى والألحان على أوتار العدمية الموازية وهي تلك التي تحترف القول بعدم وجود منجزات من أي صنف وفي أي وقت.
القول بأن كل شيء سيئ أو منهار مبالغة درامية والقول بالمقابل بأن المسائل تمام في الملفات الوطنية ولا يعتريها أي مشكلة جريمة بحق الدولة والناس معا.
في عمق المجتمع الأردني إفراط في التفاؤل أو إغراق في اتجاهه المعاكس، الأمر الذي يجعل حوارات الأردنيين في مجالساتهم أقرب إلى نقاشات حادة ومتطرفة.
* * *
بقلم: بسام البدارين
ثلاث شرائح باختصار، وبالخلاصة يمكن رصدها متلبسة في عمق المجتمع الأردني بإفراط في التفاؤل أو إغراق في اتجاهه المعاكس، الأمر الذي يجعل حوارات الأردنيين في مجالساتهم أقرب إلى نقاشات حادة ومتطرفة.
بعض النقاشات طريقة «البالطو» الشهير الذي باعه غوار الطوشة وأبوعنتر يوما لأحد شباب الحارة مع إقناعه بأن هذا البالطو العجيب سيحميه مع العائلة من برد الشتاء. ثلاث شرائح لا رابع لها.
الشريحة الأولى هي تلك المؤمنة حقا أو زيفا بأن «الدنيا قمرة وربيع» وبأن كل ما يقال من باب النقد والمعارضة أو حتى الحراك والمناكفة لا ينتمي إلى الواقع، وأقرب إلى التمثيل والتدجيل، وعلى أساس أن البلاد والعباد لا يعانيان من أي مشكلة، وأن كل ما يقال عن سلبيات متكدسة سوداوي وسلبي وأحيانا ينطوي على مؤامرة ما.
تلك الشريحة فنانة جدا في إنكار الواقع الموضوعي ولديها مهارات في تغليف وتزويق هذا الإنكار بمعنى تضليل القيادة والمؤسسات والرأي العام معا.
تلك شريحة من الطبيعي برأينا أن تدافع عن خياراتها لا بل عن امتيازاتها أيضا، فهي التي لا تريد أن تلقي اللوم لأنها المستحكمة أصلا وهي التي تطبق قاعدة «لا أرى لا أسمع لا أتكلم».
وفيها أحيانا من الانتهازية الفردية ما فيها وتضم قوما كثرا يستحكمون في مواقع الإدارة، ومن الطبيعي احترافهم في إنكار المشكلات، لأن المسؤول الأكبر يريد دوما الإصغاء لبيروقراطيين وهم يعزفون أنشودة «كله تمام سيدي» بينما لا يوجد شيء تماما لا في العالم اليوم ولا في الأردن.
على كل حال تلك شريحة منتشرة أفقيا لا بل تهاجم وبشدة أحيانا السوداويين البغضاء المتآمرين على الوطن والمواطن بسوداويتهم الدائمة.
تلك شريحة في المجتمع المحلي تمارس قولا وفعلا العدمية بامتياز وهي تحترف تغليف الغبار باعتباره أكسير الحياة ولا تمتلك مهارات التشخيص والتعمق في التحديات.
إذا لم تكن تلك عدمية من نخبة المسؤولين في المشهد اليوم أو المستفيدين من ذلك المشهد فما هي العدمية؟
بالمقابل شريحة أخرى تعزف الأغاني والموسيقى والألحان على أوتار العدمية الموازية، وهي تلك التي تحترف القول بعدم وجود منجزات من أي صنف وفي أي وقت.
وهنا شريحة تمارس كل أنماط الاعتلال الاجتماعي والاعتداء على المنتج والمنجز عبر إنكاره نكاية في الدولة أو السلطة والحكومة فقط، وبحثا عن مقعد في المجالس أو اصطيادا في المياه الرسمية الراكدة على الأرجح.
أبطال هذه الشريحة يمارسون الإنكار المقلق الموازي فهم يحملون الدولة وصناعة القرار مسؤولية أي خطا في المجتمع ويعتبرون بأن لا أحد في المستوى الرسمي ينتج شيئا اليوم وأن كل شيء ينهار وليس يتراجع فقط.
هؤلاء طبعا يعارضون أو ينتحلون صفة المعارضة في الداخل والخارج أو يركبون موجة الحراك الشعبي العادل أو يسترسلون في العزف على الأوتار نكاية بالوطن والمواطن.
ومن أجل إزعاج وإقلاق راحة الدولة والحكومة يمارسون أفضل أصناف العدمية بالمقابل التي تنكر كل شيء بعيدا عن الصورة الحقيقية.
أعجبتني بصراحة وأنا أرصد الشريحتين عبارة في مسلسل أجنبي كانت تشتكي فيه المحققة لصديقها وتقول.. « لا أعرف ما الذي أفعله.. معتل اجتماعيا مسيطر يتحكم بحياتي».
يعني ذلك ببساطة أن العدمية في الشريحة الأولى وفي الثانية قد تكون تعبيرا عن اعتلال اجتماعي يتحكم برقاب العباد ومصير البلاد اليوم للأسف طبعا.
ثمة شريحة ثالثة معتدلة في المنطق والمحتوى، وأزعم شخصيا بأن مغادرة الاستحكام السوداوي والعدمية مرهون بضم أنصار وأصدقاء جدد لهذا النادي في الشريحة الثالثة، والتي تقول باختصار بعدمية الشريحة الأولى والثانية، وبأن الوطن مظلة للجميع وبأن لعن الظلام ينتج أحيانا، لكن في نهاية النفق لا بد من إشعال شمعة على أن تلتزم هذه المرة محاولة إشعال الشمعة بكل قيود النزاهة والشفافية وقواعد اللعب النظيف حتى تشتعل حقا تلك الشمعة.
في الشريحة الثالثة تحذير من العدميتين فكلتاهما وجهان لنفس العملة وتقودان إلى نفس النتيجة حيث أن القول بأن كل شيء سيئ أو منهار مبالغة درامية والقول بالمقابل بأن المسائل تمام في الملفات الوطنية ولا يعتريها أي مشكلة جريمة بحق الدولة والناس معا.
في الشريحة الثالثة بعد التحذير تأكيد على إغلاق صفحة الماضي، والتطلع إلى مستقبل محكوم بقواعد اللعب النظيف حيث لا إنكار للمنتج والمنجز ولا إنكار لوجود تراجع كبير وملموس وحيث وهذا الأهم مراقبة السلطات وتحذيرها من كمائن المناورة واللف والدوران والتضليل والإلحاح عليها وتقديم المشورة والنصيحة دوما لها.
أفضل طريقة ووصفة لمواجهة مخاطر اعتلال اجتماعي مسيطر في الحالة الأردنية هي تمكين ركاب حافلة الشريحة الثالثة من التحرك والتوسع في المجتمع والصبر على نصائحه.
المطلوب تفكيك شيفرة الذات الوطنية بهدف المضي قدما وإعادة بنائها بدلا من تدميرها.
* بسام البدارين كاتب صحفي وإعلامي أردني
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: