عقب الربيع العربي انتقلت الفعالية في الإقليم إلى لاعبين صغار وانكفأ لاعبين كبار أو استغراقهم في أزمات داخلية وخارجية.
الأردن لم تكن له سوى سياسات دفاعية تجاه المدّ الإيراني بالمنطقة تمثلت في تعزيز الحدود مع سورية لمنع تسلل نشاط المليشيات الإيرانية داخله.
“اللا ورقة” الخاصة بحلّ الأزمة السورية، وجرى تقييمها أنها محاولة لإعادة تطبيع علاقة الأردن مع النظام السوري بل إعادة تأهيله عربياً ودولياً.
أفرزت تطورات ما بعد الربيع العربي تراجعاً ملحوظاً بمكانة الأردن الإقليمية وفاعلية دوره. إلّا أنّ عمّان استطاعت إعادة صياغة دورها أخيراً.
نظرا لضعف الخيارات وقلة البدائل وظروف الأردن بالغة الصعوبة ووجود ملايين اللاجئين من سورية والعراق يلعب الأردن ضمن هوامش محدّدة لتحقيق مكاسب لا يعارضها الشارع العربي.
* * *
بقلم: غازي دحمان
من مواصفات مرحلة ما بعد الربيع العربي، انتقال الفعالية في الإقليم العربي إلى لاعبين صغار، وانكفاء اللاعبين الكبار، أو استغراقهم في أزمات داخلية وخارجية، فيما يدير لاعبون أصغر، مثل الأردن وقطر والإمارات، حراكات دبلوماسية يغلب عليها طابع إعادة هندسة العلاقات الإقليمية، داخل الإقليم نفسه أو مع البيئة الخارجية.
وهذا متغيّر جديد في الواقع العربي الذي مر عليه زمنٌ كانت فيه مثل هذه المهمة يتولاها فاعلون كبار تحرّكهم الأيديولوجيات الكبرى، القومية والإسلامية.
الأردن مثال ساطع على هذا المتغير. ورغم أنّ الأردن كان على مرّ التاريخ الحديث في قلب التحوّلات بحكم موقعه الجغرافي على خطوط الصّدع، سواء بالنسبة لقضية فلسطين، أو بوصفه بلداً فاصلاً بين بؤر التوتر العربية، بين مصر والسعودية في خمسينيات القرن المنصرم وستينياته، وبين سورية والعراق في ثمانينياته، إلّا أنّه، في الغالب، كان طرفاً منفعلاً، وليس صانعاً للتحوّلات وموجهاً للتطورات.
وبالإضافة إلى حجمه الصغير على المستويين، الجغرافي والسكاني، شكّلت ندرة الموارد في الأردن أحد محدّدات الدور الخارجي.
وكان تقريرٌ للأمم المتحدة صادر في ستينيات القرن الماضي قد صنّف الأردن ضمن ثلاث دول حُكم عليها بالتخلف الأزلي بسبب قلة مواردها؛ الأردن وليبيا، أو بسبب نمط ثقافة سكانها؛ تايلاند، التي يصعب تحقيق تراكم ثروة فيها بسبب الإنفاق الكثيف على المعابد والرموز الدينية فيها.
لكنّ الأردن استطاع الخروج من هذا التصنيف، عبر سياسة التركيز على الموارد البشرية والاستثمار في الممكن والمتاح، فضلاً عن المساعدات الخارجية.
ما يميز الأردن عن الفاعلين الإقليميين، السابقين والحاليين، عدم تبنّيه مشروعاً جيوستراتيجياً، وحصر فاعليته وتركيز طاقاته الدبلوماسية لتحقيق أهداف عملانية وسريعة، تمحورت، على الدوام، حول تأمين أوضاع أفضل لمعيشة مواطنيه.
وبغض النظر عن مستوى النجاح المتحقّق على هذا الصعيد، خاصة على مستوى رضى الشارع الأردني عن ذلك، فإنّ هذا الفعل لم يكن، على الدوام، ميسراً من الخارج الذي طالما ربط الانفتاح على عمّان، وتقديم التسهيلات الاقتصادية بشروطٍ سياسيةٍ قلصت هوامش المناورة أمام صانع القرار الأردني إلى حدّ بعيد.
كانت السنوات الأخيرة مثالاً بارزاً على هذه المعادلة التي جرى وضع الأردن داخلها، في ظل اشتعال ثورات الربيع العربي، وسيطرة اليمين المتطرّف على السياسة في إسرائيل، ووصول إدارة دونالد ترامب إلى الحكم في أميركا، والتي افتقدت للحساسية تجاه موقع الأردن وأهميته في خريطة التفاعلات الإقليمية، وتراجع الدعم الخليجي إلى حدودٍ دنيا.
وقد أفرزت هذه التطورات تراجعاً ملحوظاً في مكانة الأردن الإقليمية وفاعلية دوره. إلّا أنّ عمّان استطاعت إعادة صياغة دورها، أخيراً، من خلال إدراكها لتغير المعطيات الإقليمية والدولية، وتقدير صانع القرار بوجود فرص في المناخ يمكن استثمارها والإفادة منها.
أما طريقة التنفيذ فقد قامت في شكل جملةٍ من التكتيكات، على شكل مبادراتٍ إقليمية، انخرطت فيها عمّان أو قادتها، وذلك بعد إعادة ترشيق علاقاتها الإقليمية والدولية، مثل تزخيم العلاقات مع الدوحة وإعادة خطوط التنسيق مع أبوظبي، وتكثيف التواصل مع واشنطن وموسكو، بوصفهما أهم لاعبين في المنطقة في المرحلة الحالية.
المثال الأول على هذا النمط الاستراتيجي في تفعيل الدور الأردني تمثل في مشروع “الشام الجديد” الذي يربط الأردن ومصر والعراق ضمن نسق علائقي جديد، يقوم في أساسه على هدف تكاملي ضمن قطاعات الطاقة، الكهرباء والنفط.
ودور الأردن هنا صلة الوصل الجغرافي بين مصر والعراق، بالإضافة إلى إمكانية تصدير الكهرباء الأردنية للعراق. ورغم أنّ المشروع ظاهرياً يبدو كأنّه محاولة لإحداث توازن مع الدور الإيراني في العراق والمنطقة، فإنّ الأردن لم يرصد موارد استراتيجية لمثل هذا المشروع، ولم يكن في موقع تصادمي مع إيران.
وباستثناء التحذير الشهير للملك عبد الله الثاني في عام 2004 من خطر تشكيل إيران هلالاً شيعياً في المنطقة، فإنّ الأردن لم تكن له سوى سياسات دفاعية تجاه المدّ الإيراني في المنطقة، تمثلت في تعزيز الحدود مع سورية لمنع تسلل نشاط المليشيات الإيرانية داخله.
المثال الثاني، كان ما سمّيت “اللا ورقة” الخاصة بحلّ الأزمة السورية، وجرى تقييمها أنها محاولة لإعادة تطبيع العلاقة مع النظام السوري، بل إعادة تأهيله عربياً ودولياً، وهو أمر لا بد أنّ صانع القرار الأردني ذا الخبرة الهائلة في تشابكات الأزمة السورية وأدوار اللاعبين الخارجيين فيها، يدرك أنّه يستحيل تحقيق خرق ما من دون حصول توافقات دولية، أكبر من قدرة الأردن الدبلوماسية، وأثقل من وزن العالم العربي بأجمعه في هذا المجال.
يكتشف المتتبع لسياق التطورات أن المبادرة الكبيرة التي قادها الأردن حققت أهدافا صغيرة، لكنّها ضرورية بالنسبة لعمّان، خصوصاً على مستوى انسيابية الحركة التجارية مع سورية وعبرها إلى أوروبا، وعودة عوائد حركة الترانزيت بين سورية ودول الخليج التي تؤثر، بشكل واضح، في ميزان المدفوعات الأردني، والشيء نفسه بخصوص وضع الأردن في مشروع “الشام الجديد”، حيث تشكّل العوائد الحاصلة والمرجوّة هدفاً مهماً للدبلوماسية الأردنية.
هل يمكن وصف السياسة الأردنية بالانتهازية؟
بالنظر إلى ضعف الخيارات وقلة البدائل، وظروف الأردن بالغة الصعوبة، ووجود ملايين اللاجئين، من سورية والعراق، يبدو مشروعاً للأردن اللعب ضمن هوامش محدّدة لتحقيق المكاسب، لا يُعتقد أنّ أحداً في الشارع العربي يعارضها.
* غازي دحمان كاتب وباحث سياسي سوري
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: