(إسرائيل) وقانون يهودية الدولة
بقلم: علي عبد السلام المحارمة
1. أبعاد طرح القانون وتبنيه
إن يهودية الدولة تعتبر فكرة راسخة تم توثيقها وتثبيتها من خلال النهج الصهيوني منذ نشأته حتى إعلان استقلال الدولة والتي تم الاعتراف بها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، وقد تضمنتها بشكل صريح وثيقة إعلان الدولة حيث نصت «أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي، هنا تكونت شخصيته الروحية والدينية والسياسية، وهنا أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيما حضارية ذات مغزى قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد…» (وثيقة اعلان دولة اسرائيل، الموقع الالكتروني للحكومة الاسرائيلية)، وبالتالي ثمة ظروف وأسباب دفعت لفتح هذا الملف في السنوات الأخيرة على مصراعيه.
إسرائيل ما برحت تسوّق ذاتها في الغرب والعالم بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وذلك لإضفاء الشرعيتين الداخلية والخارجية على وجودها ونهجها، وقد أوقعها ذلك في أتون تناقض جوهري لا يمكن تجاوزه: دولة تعرّف نفسها بأنها دولة لعنصر محدد من البشر هم اليهود، وبذات الوقت تعرّف نفسها بأنها دولة ديمقراطية، والديمقراطية في أحد أهم معانيها تعني المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
لقد كان عرب إسرائيل الذين تشبثوا بالبقاء في أراضيهم منذ العام 1948 يشكّلون على الدوام التحدي الرئيسي لهوية إسرائيل اليهودية، ويمثّلون خرقا واضحا لمفهوم الدولة اليهودي؛ وهو مفهوم عنصري يتبنى الطرح الأثني العرقي للمكون السكاني لشعب هذه الدولة، فهم لم ينخرطوا بالصهيونية ولم يتبنوا الرؤية اليهودية للأحداث ولم يشتركوا في النظرة اليهودية، للجوار العربي «بأنه محيطٌ معادٍ يتربص بالدولة اليهودية من أجل القتل والإجرام».
ولطالما تم إحراج دولة إسرائيل وكشف عنصريتها من خلال السياسات العنصرية التي تميّز بين افراد شعبها، وتم الفصل كثيرا في قضايا مثل هذه أمام المحاكم الإسرائيلية والتي بدورها لم تتورع في احيان كثيرة عن إنصاف المواطنين العرب في إسرائيل، رغم أنها ايضا كثيرا من اجحفت بحق مطالبهم العادلة.
إن العدالة في الحقوق والواجبات تمنح المواطنين العرب الإسرائيليين الحق في تقرير مصير الدولة وقراراتها مثلهم مثل اليهود، وهذا الأمر كان مثارًا للجدل والنقاش في أعقاب اغتيال رابين حين تبين أن فوز معسكر اليسار؛ المعسكر الذي وصف بأنه داعم للتسوية السلمية بقيادة حزب العمل لم يكن ليتحقق لولا دعم الناخبين العرب له، وبالتالي تبين للمعسكر الآخر أن من يقررون مصير إسرائيل وسياساتها الخارجية وقراراتها الحاسمة هم مواطنون اسرائيليون؛ لكنهم عرب.
وفي هذا السياق أثيرت مطالبات عدة بتنحية العنصر العربي عن قرارات إسرائيل الإستراتيجية، ومطالبات باستثناء العرب من أي استبيان للرأي حول قرارات هامة مثل انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية على سبيل المثال، وذلك لاعتقاد أصحاب هذا الرأي انه لو تم تنحية العرب من التصويت ستكون الغلبة للمعسكر اليميني الرافض لإنسحاب إسرائيل من أية أراضٍ عربية محتلة.
وبالإضافة إلى ذلك؛ يمكن القول بما لا يدع مجالاً للشكل أن إسرائيل دولة يهودية بكل منهجها وسياساتها وقوانينها وتوجهاتها، والدليل على ذلك كل رموز الدولة المشار إليها أعلاه، بالإضافة إلى أن المواطن العربي الذي يتزوج من شخص من خارج إسرائيل لا يستطيع منح شريكه الجنسية الإسرائيلية إلا بشق الأنفس، بينما يتم منح هذه الجنسية لأي مهاجر يهودي فور وصوله البلاد، كما أن كتابة التاريخ والأحداث تتم بأقلام يهودية وبطابع يهودي عنصري مطلق، وهذا الأمر يؤكد أن الحاجة لتأكيد يهودية الدولة هي حاجة غير سطحية ظاهرية أو موضوعية؛ وإنما هي لأغراض سياسية عميقة.
2. ماهية قانون أساس إسرائيل: الدولة القومية للشعب اليهودي
للتعرف على ماهية قانون يهودية الدولة؛ فهو عبارة عن صيغة توافقية لعدة مشاريع تبناها أعضاء من الكنيست كانت تهدف جميعها لإعادة صياغة تعريف الدولة وهويتها وشكلها، وتتضمن انحيازاً عنصرياً مقيتاً لتفضيل يهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها المزعومة، وقد تم تقديم أول صيغة من هذا القانون في الكنيست الثامن عشر من خلال عضو حزب كديما (آفي ديختر) الذي كان يشغل قبل ذلك منصب رئيس جهاز الأمن الداخلي – الشاباك، كما تم تقديم صيغتين أخريين للقانون في الكنيست التاسع عشر إحداهما من خلال عضو الليكود (زئيف إليكن)، والأخرى من خلال طرح مشترك جمع بين (آييلت شاكيد) من حزب البيت اليهودي الديني، و(ياريف ليفين) من الليكود أيضا.
وقامت اللجنة الوزارية للتشريع في 2014 التي كانت ترأسها تسيبي ليفني بمناقشة هذا المشروع، إلا أنها أعترضت عليه كونه يتعارض مع وثيقة إعلان الإستقلال، ويتناقض مع القيّم الديمقراطية للدولة، وعلى ضوء الضجة التي رافقت هذا الجدل، والخلاف في المواقف داخل الحكومة بين معسكري: اليمين القومي الديني المتطرف بقيادة نتنياهو، واليمين الأقل تطرفاً بقيادة يائير لبيد وتسيبي ليفني، بالإضافة لأسباب أخرى، تمت الدعوة لإنتخابات جديدة في 2015.
وبعيد إعلان النتائج وتمكن الليكود بقيادة نتنياهو من تشكيل إئتلاف حكومي أعلنت الحكومة الخطوط العريضة لسياستها تضمنت ستة عشرة نقطة رئيسية كانت أولها: التأكيد على أن «للشعب اليهودي الحق غير القابل للنقض في دولة سيادية في ارض إسرائيل، وطنه القومي والتاريخي»، وفي ظل الكنيست العشرين الحالي قام (أفيغدور ليبرمان) زعيم حزب اسرائيل بيتنا ومعه اعضاء آخرون من الكنيست بطرح المشروع الأخير لهذا القانون، وقد تم تمريره رغم اعتراضات عدد من أعضاء الإئتلاف الحاكم عليه، ناهيك عن غالبية أعضاء المعارضة.
ومن أبرز المعارضات على هذا القانون أنه سيضع اليهود المتواجدون في دول العالم المختلفة بموقف محرج إذا كان انتمائهم الأول لإسرائيل وليس لبلدانهم وفقا للقانون فإن ذلك سيضعف موقفهم في بلدانهم، وبالتالي إمكانية التأثير على صنع القرار بتلك البلدان لما يخدم دولة اسرائيل ومصالحها، كما أنه سيثير قضية تعريف اليهودي من جديد، وهي قضية أدت لتوتر العلاقة كثيرا بين إسرائيل التي تسود بها أفكار وأحكام اليهودية الأرثوذكسية المتشددة بتعريف اليهودي، وبين يهود الخارج وغالبيتهم يتبعون لليهودية الإصلاحية المتساهلة بتعريف اليهودي لا سيّما من ابناء الزيجات المختلطة.
وثمة موقف معلن لحزب يهوديت هاتوراه الديني يتضمن التحفظ على هذا القانون قد لا يبدو مختلفا كثيراً عن معارضة الحزب الأم (أغودات) للصهيونية قبل أكثر من مئة عام، وذلك لأن تعريف الدولة في القانون بأنها دولة اليهود في كافة الاماكن والأزمان يتناقض مع تعريف دولة إسرائيل الواردة في النصوص الدينية؛ والتي لا تقوم على أيدي البشر، وانما تقوم على يد المسيح المخلِّص المنتظر، هذا بالإضافة لإعتراضهم على موقع الشريعة اليهودية الهامشي في القانون حسب رؤيتهم، ولكن كل ذلك يتم بطرح خافت خجول؛ كون القانون وفقا للعديدين من حاخامات الأرثوذكس يمكن النظر إليه في حال تم تمريره بمثابة خطوة على الطريق الصحيح.
3. العوامل المؤدية لطرح قانون يهودية الدولة
ثمة العديد من العوامل والظروف التي ساعدت على تبني طرح هذا القانون للنقاش وتصدر واجهة العملية السياسية والفكرية في إسرائيل وصولا لاقراره، ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة سياقين رئيسيين:
أولا: السياق الدولي والإقليمي
تم طرح القانون للنقاش في مجلس الكنيست الثامن عشر (2009-2013)، وهو الكنيست الذي اشتىعلت في فترته شرارة الربيع العربي، كما أنه الكنيست الذي شهد على تراجع الدور الأمريكي الخارجي في عهد الرئيس السابق باراك اوباما، وبذات الوقت تباطؤ وجمود تفاعلات عملية التسوية السلمية في عهد حكومة نتنياهو.
إن إرتباط هذا الطرح بالبيئة الإقليمية المنشغلة بتفاعلات الربيع العربي؛ وأبرز انعكاساتها على الصراع العربي الصهيوني هو تراجع أولوية القضية الفلسطينية لحساب القضايا الداخلية للبلدان العربية المختلفة سواء تلك التي وصلها الربيع العربي أو الأخرى التي لم يصلها هذا الربيع على إختلاف تسمياته، وبالتالي يمكن إعتبار هذا الطرح بمثابة إستغلال للظروف العربية المنشغلة عن تفاعلات القضية الفلسطينية.
كما أن وصول عملية التسوية السلمية مع الفلسطينيين في عهد نتنياهو إلى أفق مسدود جعل إسرائيل تستقوي على الفلسطينيين في ظل تراجع المساندة الدبلوماسية العربية للجانب الفلسطيني، وحينئذ أخذ الجانب الإسرائيلي يقدم مطالب تعجيزية كأرضية للحل السلمي، وقد تبدو تلك المطالب غير جادة في الأساس لأن بها تبجحا وتململا أكثر من كونه طرح عملي جاد.
حيث طالب نتنياهو الجانب الفلسطيني بالإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، لكن الفلسطيين رفضوا، وأصروا على الإعتراف بإسرائيل دون الخوض بهوية الدولة، وذلك نابع من الفهم الفلسطيني للإقرار بيهودية الدولة وتبعات هذا الإعتراف على إلغاء حق العودة أو التعويض للفلسطيين، وحق اليهود بالهجرة إلى إسرائيل وقتما يشاؤون، وذلك كله رغم أن من يتبنى طرح هذا القانون في أروقة الكنيست غالبيتهم من الرافضين لحل الدولتين في التسوية السلمية الفلسطينيين.
ويمكن في هذا السياق أيضاً الحديث عن نجاحات السلطة الفلسطينية في حصد العديد من النجاحات الدبلوماسية في مجال الإعتراف بالدولة الفلسطينية؛ وهو أمر يتم تفسيره بإسرائيل بأنه يجسد خسارة سياسية يجب التعامل معها، وبالتالي يمكن النظر لطرح القانون الذي يعيد التأكيد على يهودية الدولة الوارد في صيغة 1948 ولا يخلق واقعا جديداً بأنه ردة فعل احترازية لتأكيد شرعية الدولة في المجتمع الدولي؛ وبذات الوقت لمواجهة سياسات المقاطعة الدولية لإسرائيل من خلال التأكيد على أن إسرائيل تشكل مرجعية لليهود في كافة دول العالم، وأن الدفاع عنهم من حق وواجب إسرائيل، وهذا الأمر يتيح من جديد إستخدام ورقة العداء للساميّة كورقة ضغط على البلدان التي يتواجد بها اليهود.
وفي الجانب الأمريكي؛ فقد بدى واضحاً أن اوباما وصل لقناعة بعدم أهلية نتنياهو لتقمص دور الشريك من أجل تحقيق السلام، إلى درجة ربما وصلت لخروج عن مسار الخلافات والمستويات السياسية والدبلوماسية إلى مستويات شخصية حادة، وأبرز محاور هذا الخلاف كان على إثر التعاطي الأمريكي مع قضية ملف ايران النووي حيث اتهم نتنياهو الإداراة الأمريكية بالتساهل مع اطماع ايران النووية والتي تهدد السلام في الشرق الأوسط بشكل عام وليس إسرائيل فقط، وهذا الأمر قد يكون مبررا لدى نتنياهو وفريقه في الحكم بإتخاذ مواقف متشددة للرد على حالة الخلاف تلك، وبالتالي وضع السياسة الأمريكية في موقف محرج أمام أصدقائها العرب وأمام المجتمع الدولي أيضا.
وفي هذا السياق أيضا لا يمكن إغفال العلاقة بين يهود الخارج وعلى رأسهم اليهود الامريكيين وبين إسرائيل، فقد شابت هذه العلاقة الكثير من الخلافات في ظل حكم الليكود ومن قبله كاديما، حيث وضعت اليهود الليبراليين الإصلاحيين في أمريكا بمواقف كثيرة محرجة جعلتهم لا يستطيعون الدفاع عن السياسات الإسرائيلية المعادية للسلام والمعطّلة للتسوية السلمية، وخاصة عقب تلك المشاهد المؤلمة من الحروب الإسرائيلية على غزة، وكل ذلك ساهم بتراجع مكانة إسرائيل لدى اليهود في الخارج مما حدى بمن صاغ القانون أن يجعل اليهودي في الخارج ينظر لإسرائيل ليس بوصفها دولته فحسب؛ بل أيضا الدفاع عنها.
- د. علي عبد السلام المحارمة باحث في النظم السياسية
المصدر: «الدستور» الأردنية