- بينما عارضت الدولة السعودية بقوة انتفاضات 2011 الشعبية العربية، لم يخف الداعية مساندته لها.
- إذا أراد النظام إصلاح السلفية الوهابية فالعودة نموذج ناجع إضافة لكونه فاعلاً لا غنى عنه في ذلك!
- أسباب اعتقال المشايخ من المؤسسة الدينية الرسمية تؤكد أنه لا مجال لرأي حر في السعودية المُعاصرة.
- سيحدث غياب العودة فراغاً يترك متابعيه أمام خيارين: استلحاق بدولة قتلته، أو التحاق بمتطرفين يقاتلونها.
موت.. ومضاعفات!
بقلم: ياسمين فاروق
طلب المدعي العام السعودي في 4 أيلول/سبتمبر إنزال عقوبة الموت خلال محاكمة الداعية السلفي الشيخ سلمان العودة الذي يُواجه 37 تهمة بينها إثارة الفتن، وتأليب المجتمع على الحكام، ودعم الثورات العربية، ودعم جماعة الإخوان المسلمين والانخراط في نشاطاتها، ومساندة المُعتقلين والمُطالبة بإطلاق سراحهم.
هذا التطور يجب أن يثير مشاعر الارتياع والقلق حتى لدى أولئك الذين لايتعاطفون مع الإسلاميين. إذ إن استهداف العودة على هذا النحو، لا ينسجم مع الخطاب الرسمي السعودي هذه الأيام الذي يشير إلى وجود رغبة في استحداث إصلاحات في المملكة.
والواقع أن العودة نفسه كان دشّن عملية نزع لبوس التطرّف عن السلفية السعودية والعمل على إصلاحها من القاعدة إلى القمة وبطريقة تحتضن الجميع، من دون اللجوء إلى قمع الدولة.
وقد وفّرت له الصدقية التي حصدها، مجالاً واسعاً كي يقف في وجه الممانعة العنيفة لأي عملية إصلاحية للإسلام يُعتد بها في المملكة وفي كل مكان.
الآن، إذا ما كان النظام السعودي يسعى فعلاً إلى إصلاح السلفية الوهابية، فإن العودة قادر على تزويده بأنموذج كي ينفّذ ذلك بنجاعة؛ هذا علاوة على أنه سيكون فاعلاً لاغنى عنه في هذه العملية.
لماذا؟ لأنه رجل لا يتنكّر لماضيه. فهو كان خلال حقبة التسعينيات أحد أعضاء حركة الصحوة السلفية الراديكالية السعودية التي أدانت قبول الأسرة الملكية وجود قوات أميركية على التراب السعودي.
لكنه بعد أن أمضى شطراً من الزمن في السجن، أدار الظهر للإيدولوجيا الراديكالية، وبدأ بالدعوة لصالح النشاط اللاعنفي. وقد مكّنته أراؤه المعتدلة هذه من تجنّب الصدام مع الأسرة الحاكمة.
صحيح أن هذا التحوّل أطلق في وجهه سيلاً من الاتهامات بأنه بات مُستلحقاً للنظام، إلا أنه (التحوّل) جعله أيضاً ممثلاً بارزاً للسلفية غير العنيفة. ومالبثت أعداد أتباعه أن تضخّمت إلى حد كبير حين أصبح ضيفاً على محطات التلفزة المحلية والإقليمية، كفضائية «الجزيرة».
في العام 2000، أنشأ العودة مؤسسة «الإسلام اليوم» التي تطرح آراءَ مُيسّرة حول مناحي الحياة الإسلامية كافة، ويتوافر الموقع الإلكتروني للمؤسسة، الذي حصد 3 ملايين زيارة منذ تأسيسه، على أربع لغات. كما بات للشيخ العودة نحو 21 مليون مُتابع على تويتر وفايسبوك ويوتيوب معاً.
لايُعتبر العودة البتة داعية محلياً تقليديا، لأن آراءه، بالمقارنة مع أقرانه، تستميل وتجتذب قطاعات غير سعودية وغير سلفية. وحضوره العابر للحدود يتجسّد في عضويته في المنظمات الإسلامية الأجنبية، واهتمامه بالشأن العام خارج السعودية.
وسعى العودة إلى التشديد على أن السلفية يمكن أن تكون حديثة، وإنسانية، ونشطة سياسيا، ومُنفتحة على التعاون مع إيديولوجيات أخرى.
بل إن فتاويه تعكس إطلالة سلفية أكثر حداثة تنطوي على المواطنة الكاملة للجميع، بما في ذلك النساء، وغير الإسلاميين، وغير السنّة، وحتى غير المؤمنين.
جاء اعتقال العودة عقاباً له على مواقفه السياسية. ففي حين عارضت الدولة السعودية بقوة الانتفاضات الشعبية في العالم العربي منذ 2011، لم يخف الداعية مساندته لهذه الانتفاضات.
ورغم أنه لم يحث على إشعال الثورات، إلا أنه كان يحذّر من أن “القمع، والظلم، والفساد، والتخلّف، والفقر، يستجلب الثورات”.
العودة لم يحبّذ تبنّي الديمقراطية الغربية، لكنه اعترف بأنها “تُحقق العدل، والمقبولية، والانتقال الطوعي للسلطة”، وبأنه “ليس هناك ما يمنع اقتباس بعض الممارسات التنافسية الغربية، إذا ما كان الشعب يقبلها. كما يمكن للشعب أن يرفضها إذا ما أراد ذلك”.
مثل هذه الآراء تختلف عن السلفية الوهابية التي تعارض الثورات، وتدعو إلى إدارة الظهر للسياسة، وتعتبر أن الحاكم أدرى من رعاياه بما هو أفضل في الشأن السياسي.
وكانت آخر تغريدة سياسية له قبل اعتقاله قد تطرقت إلى الشرخ بين معظم دول الخليج وبين قطر، تضرع فيها إلى الله قائلاً “اللهم ألف بين قلوبهم لمافيه خير شعوبهم”.
قبل ذلك، كان الداعية امتنع عن إبداء رأيه بقرار الملك القاضي برفع الحظر عن سياقة النساء للسيارات. وبالتالي، اعتُقل عودة ليس لأنه يعارض السياسات الجديدة، بل لأنه لم يساندها بنشاط، وهذا فُسِّرَ على أنه تخلّف عن دعم هذه الإصلاحات.
هذا المنطق نفسه، يلقي أضواء على أسباب اعتقال وتوقيف المشايخ من المؤسسة الدينية الرسمية، ويؤكد أنه ليس ثمة مجال للرأي الحر في السعودية المُعاصرة.
إذا ما تم إعدام العودة، فهذا أمر لن يُحزن المتطرفين الذي يقولون أنه مغالٍ في ليبراليته. ومع ذلك، اغتنم بعض هؤلاء الفرصة وأعلنوا على تويتر أن مسألة مصير العودة، تُظهر أن دعوة اللاعنف مع الحكام السعوديين لا فائدة منها ولاطائل من ورائها.
كذلك، سيخلق غياب العودة فراغاً يترك معظم متابعيه غير المُحصنين أمام خيارين إثنين: استلحاق بالدولة التي قتلته، أو التحاق بركب متطرفين يقاتلون الدولة.
والواقع أن القمع الراهن للنشاطات المستقلة، والسياسية، والاجتماعية، وحتى الاقتصادية، في المملكة، يمكن أن يدفع بعض الفئات إلى اللجوء للعنف بوصفه الوسيلة الوحيدة لإسماع أصواتها.
لذا، يجب أن يكون الحكام السعوديون يقظين لمخاطر الإقدام على إنزال عقوبة الإعدام بالعودة.
ربما تحاول السلطات في المملكة إصلاح برامج التعليم الوهابية، لكن ليس في وسعها الدخول إلى كل المنازل لتغيير عقول وقلوب أجيال من الناس نموا وترعرعوا في كنف هذه البرامج.
بيد أن العودة، وبفضل قصته الشخصية والمسافة التي وضعها بينه وبين المؤسسة الرسمية، يحتل موقعاً أفضل لإقناع حتى أكثر السلفيين حروناً وجموحاً بالتخلي عن التطرف و«الجهاد».
إلى ذلك، سيكون لإعدام العودة مضاعفات على النخبة السياسية السعودية نفسها، سواء على المدى المتوسط أو البعيد.
فالإصلاحات الاجتماعية والدينية الأخيرة التي أعلنها ولي العهد محمد بن سلمان، المُترافقة مع القمع الذي تقوم به الدولة، بدأ يولّد سخطاً في صفوف المؤسسة الدينية الرسمية وفي المجتمع السعودي ككل.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك التوترات الكامنة في أوساط الأسرة الملكية والنخب الاقتصادية، وكذلك حقيقة أن التحديث يزيد الوعي السياسي والاجتماعي للشبان السعوديين، فقد نستنتج أن ثمة احتمالاً بنشوء تحالفات بين مسؤولين معارضين من داخل الدولة وبين رعايا من خارجها.
وكما تدل الدروس المستقاة من الانتفاضات العربية، مثل هذا التحالفات، لا الثورات، هي التي تحظى بأفضل الفرص لإطاحة قادة الأنظمة السلطوية.
لم يتمّ بعد التوصّل إلى حكم قضائي نهائي في قضية العودة،ـ الذي يُقاضى أمام محكمة خاصة في الرياض شُكِّلت العام 2008 للتعامل مع مسائل الأمن وقضايا الإرهاب.
كل الناشطين السياسيين يمثلون أمام هذه المحكمة التي أصدرت عدداً من أحكام الموت التي جرى تنفيذها. ويخضع القضاة في المحكمة إلى ضغوط سياسية كبيرة مصدرها البلاط الملكي.
وإذا ما قضت المحكمة بإعدام العودة، سيكون أمامه مرحلتين للاستئناف قبل أن يصادق الملك على الحكم: مايجعله مُبرما.
يصعب التكهّن ما إذا كان العودة سيُعدم أم لا، بفعل التطورات العديدة والمتلاحقة التي تترى للمرة الأولى في المملكة. لكن المؤكد أن المحكمة ستتخذ قراراً بِكتم فمهه أو تعرض عليه ترتيباً سياسياً يخضع بموجبه للنظام.
إن تحديث المجتمع السعودي يتطلّب إصلاح الحالة الإسلامية، وبالتالي القادة الإسلاميين.
لا بل يمكن الذهاب أبعد منذ ذلك فنفترض أن السلطات السعودية قد تحظى بدعم الشابات والشبان السعوديين الذين رحبّوا واحتضنوا الإصلاحات الليبرالية الأخيرة في المملكة. فالشبان غير الإسلاميين يواجهون اليوم القمع نفسه الذي يعاني منه الآن الإسلاميون.
ففي 4 أيلول/سبتمبر الجاري، صدر قانون “يجرّم المحتوى الإلكتروني الذي يتم نشره وتداوله على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت ويحمل طابع السخرية والاستهزاء، التي من شأنها المساس بالنظام العام، والقيم الدينية، أو الآداب العامة، أو حرمة الحياة الخاصة”.
السؤال الآن يتمحور حول كيفية تفسير هذه التعابير الفضفاضة في القانون.
في غياب فاعلين اجتماعيين وسياسيين ناشطين في المملكة، لاتزال الأطراف الدينية هي الأقدر على التعبئة على المستوى الوطني والعابر للحدود ضد النظام وضد داعميه الدوليين والإقليميين.
فبعد كل شيء كانت السعودية، كما هو معروف، مصدر ثاني أكبر فريق من المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية.
ومع بدء عودة هؤلاء إلى المملكة، لن يسفر إعدام العودة سوى عن النفخ في إوار التطرّف العنيف والتعبئة السياسية.
ولذا، قد تفعل السلطات خيراً إذا ما أستعانت بأمثال العودة لمعالجة الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي يحتمل أن تُثيره إصلاحات محمد بن سلمان.
*ياسمين فاروق باحثة مصرية زائرة ببرنامج كارنيغي للشرق الأوسط.
المصدر: موقع «ديوان» – مركز كارنيغي للشرق الأوسط