هناك محاولات عربية واعدة بتكوين أيديولوجيات تأخذ بعين الاعتبار تاريخ وثقافة وقيم وحاضر ومستقبل وطموحات هذه الأمة
الأيديولوجيا تلعب دوراً بارزاً في تنظيم وإدارة العلاقات الاجتماعية المتوازنة، ونوع النظام الاقتصادي الإنتاجي، وتركيبة الحياة السياسية.
انبثقت الأيديولوجيا من الأفكار Ideas إزاء أفعال لا تعتمد على ممارسة الفكر من قبل عقل يولده ويطوره ويجدده باستمرار ولا تنطلق منه.
* * *
بقلم: علي محمد فخرو
عبر حوالي قرن من تاريخ العرب الحديث، والمحاولات تترى بشأن تكوين ونشر الأيديولوجيا المهيمنة في مختلف أجزاء الوطن العربي. ولا تزال المحاولات جارية حتى لو قُدمت تحت مسميات أخرى مثل، المشاريع والاستراتيجيات وغيرها.
ولن توقف المحاولات بعض الأصوات النشاز، التي تغمز وتلمز حاملي الأيديولوجيات التغييرية، بينما تتبنى هي كل مقولات أيديولوجيا الأقلية من قوى السيطرة والاستئثار والامتيازات المادية والمعنوية غير المستحقة.
دعنا أولاً نتفق على أن التعريف العام لتعبير الأيديولوجيا يصفها بأنها العدسة التي من خلالها يرى الإنسان العالم، وأن علم الاجتماع يعرّفها بأنها مجموع القيم والمعتقدات والمسلمات والآمال التي يحملها الفرد.
من هنا فإن الأيديولوجيا تلعب دوراً بارزاً في تنظيم وإدارة العلاقات الاجتماعية المتوازنة، ونوع النظام الاقتصادي الإنتاجي، وتركيبة الحياة السياسية.
هذا التعريف الشامل، المتشابك في مكوناته، والجهات التي يتعامل معها، هو الذي أدى إلى تنوع الأيديولوجيات الكبرى التي عرفها العالم عبر أكثر من قرنين:
– مثل الأيديولوجيا الماركسية، التي تنطلق من نقد ومواجهة ما تعتبره النظام الاقتصادي الإنتاجي الجائر الظالم للطبقة العاملة المنتجة.
– ومثل الأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية، التي تنطلق من حرية التملك وحرية السوق، واستقلال الفرد والسوق إلى أبعد الحدود عن تدخلات سلطات الدولة،
– ومثل الأيديولوجيا، التي نادى بها وطورها الثوري الإيطالي أنطونيو غرامشي، التي تنطلق من أن المشكلة هي في الدرجة الأولى في وجود ثقافة مجتمعية مهيمنة على وعي المواطنين، لتحافظ على الأوضاع الجائرة كما هي، أي أيديولوجيا التسكين والتخدير وقبول الأمر الواقع، ورفض التغيير الجذري التي تنشرها سلطات الدولة، من خلال الاستعمال الانتهازي للدين، ومن خلال النظام التعليمي، ومن خلال الإعلام والفنون وغيرها،
– ومثل الأيديولوجيا القومية، التي قد تنطلق من الاعتقاد بالتميز العرقي لهذه الأمة أو تلك، وأخيراً مثل الأيديولوجيا السياسية الدينية، التي تنطلق من تعاليم وقيم وتشريعات دين معين.
وبالطبع فقد تأثرت كل أنواع الأيديولوجيات في بلاد العرب بكل تلك الأيديولوجيات، أخذاً أعمى، ورفضاً أعمى، وتعديلاً وتشويهاً، أو خلطاً متناقضاً.
نورد تلك الخلفية التاريخية كرد على محاولات مستمرة لإبعاد شابات وشباب الأمة العربية عن أي صورة من صور التفكير الأيديولوجي، أي النشاط الفكري الإنساني القيمي الأخلاقي، المنفتح الشامل الذي يحكم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليجعلها حياة عدل وتضامن وتراحم وسلام.
أن يطالب البعض بمراجعة الأيديولوجيات وتفعيلاتها في الواقع فهذا حق، وأن ينادوا برفض الانغلاق والتزمت الأيديولوجي، وبضرورة تعايشها السلمي التحاوري فهذا مقبول، وأن يحذروا الشباب من الوقوع في فخ أيديولوجيات الأمر الواقع، التي تمارسها هذه الجهة أو تلك، لإبقاء هيمنة وامتيازات هذه الأقلية أو تلك فنعم التحذير هذا.
أما أن يطالبوا بزوال مبدأ ضرورة وجود مختلف الأيديولوجيات الشاملة في المجتمعات العربية، والاكتفاء بالتعامل مع مشاكل المجتمعات بصورة تجزيئية غير مترابطة، فهذا مرفوض لأنه بداية إماتة السياسة والتزاماتها وممارستها في حياة شابات وشباب الأمة.
لنتذكر أن أصل كلمة الأيديولوجيا اللغوية، انبثقت من كلمة الأفكار (IDEAS) في وجه الأفعال التي لا تنطلق من، ولا تعتمد على ممارسة الفكر من قبل عقل يولده ويطوره ويجدده باستمرار.
من الضروري أن يعرف شباب وشابات الأمة، أن هناك محاولات عربية واعدة بتكوين أيديولوجيات تأخذ بعين الاعتبار تاريخ وثقافة وقيم وحاضر ومستقبل وطموحات هذه الأمة. النصيحة لهم: تابعوا هذه المحاولات وانغمسوا فيها نقاشاً وتبنياً ورفضاً، لكن إياكم أن تستمعوا لمن يريدونكم كمتفرجين بلهاء على حافة طرق الحياة.
* د. علي محمد فخرو سياسي ومفكر بحريني
المصدر| الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: