منذ أسبوعين مرت ذكرى انطلاقة فتح بحزن لا يليق سوى بالنهايات! لقد احتلت كآبة النهاية المشهد بأسره.
فتح كحركة مقاومة كانت ضرورية في الستينيات، وفتح كحزب سلطة صارت نقيض فكرتها المؤسسة، بل صارت عبئاً على فلسطين.
أين فتح؟ نسأل.. لا يليق بفتح أن تكون اسماً لفعل ماضٍ ناقص، فنقول «كانت فتح». فالفعل لم يكن ناقصاً، لكن هناك من أنقصه وحوّله من فعل إلى مفعول به.
صارت فتح سلطة تحت الاحتلال وخرجت من مشهد أسسته منذ ستة عقود ولم يبق من القديم سوى أسرى بسجون الاحتلال وفدائيين يحاولون استئناف نضالات «كتائب شهداء الأقصى» فيلاحقهم الاحتلال بالتنسيق مع السلطة.
* * *
بقلم: إلياس خوري
منذ أسبوعين مرت ذكرى انطلاقة فتح بحزن لا يليق سوى بالنهايات. في الأول من يناير/كانون الثاني 1965، أطلقت قوات العاصفة رصاصتها الأولى، مؤسسة لمشهد البداية الجديدة التي صارت بعد هزيمة 5 يونيو/حزيران 1967 وعداً فلسطينياً وموعداً عربياً.
أما في الأول من يناير/كانون الثاني 2022، أي بعد سبعة وخمسين عاماً، فقد احتلت كآبة النهاية المشهد بأسره. صارت فتح سلطة تحت الاحتلال، وخرجت من المشهد الذي أسسته منذ ستة عقود، ولم يبق من القديم سوى الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ومجموعات من الفدائيين يحاولون استئناف نضالات «كتائب شهداء الأقصى»، فيلاحقهم الاحتلال بالتنسيق مع أجهزة السلطة.
غير أن المصير الذي آلت إليه حركة فتح لا يعني أن ذكرى الانطلاقة هي دعوة للنوستالجيا وفاتحة للرثاء.
حكاية فتح تستحق أن تقرأ وتُستخلص منها الدروس، لكنها يجب أن تُقرأ أولاً بصفتها حكاية كبرى صنعها ألوف الشهداء، وحولتها إرادة الحرية إلى مشروع وطني فلسطيني كبير، وإلى نقطة جذب لأعداد لا تحصى من المناضلات والمناضلين العرب.
لا يمكن اختصار فتح بالسلطة الفلسطينية وبالخط السياسي المستسلم الذي ساد بعد اغتيال ياسر عرفات. فتح حكاية أخرى لا علاقة لها بطفيليات الاستسلام التي تتحكم اليوم في فلسطين.
لكن من حقنا جميعاً أن نسأل، ماذا جرى، ولماذا وكيف؟
هل يمكن اختصار المسألة بهيمنة الكهولة ورتابتها وعجزها عن قيادة تنظيم أسسه شباب حالمون، فانتهى بهم النضال إلى السقوط شهداء، ولم يبق من القيادة التاريخية سوى من لم يقد في زمن الاشتباك.
أم أن المسألة أكثر تعقيداً، وتتعلق بالوهم الذي قاد إلى الوهن، أي بمشروع تسوية لم تكن سوى سراب نتج عن نصف انتصار- نصف هزيمة حرب تشرين-أكتوبر 1973.
تعالوا نقرأ بعض مؤشرات المسار الفتحاوي، ففتح لم تكن حزباً سياسياً، بل كانت حركة. أي كانت مشروعاً نضالياً مرتبطاً بشعار مركزي: «كل البنادق نحو العدو». هذه هي عبقرية طرح الثنائي خليل الوزير وياسر عرفات، ومعهما صلاح خلف وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وفاروق القدومي وأبو علي إياد.
فلقد تشرذمت فلسطين وتقطعت أوصالها بعد حرب نكبة 1948، وحاول شبابها اللجوء إلى الأيديولوجيات القومية والإسلامية التي كانت سائدة. فالأيديولوجية لم تكن بالنسبة لهم سوى أداة لاستعادة الهوية وتحرير الوطن المحتل.
لذلك، كان من السهل بعد هزيمة مصر الناصرية في حرب الأيام الستة المخزية، تبديل الأيديولوجية. فحل الفكر اليساري المتمركس في منظمات قومية كحركة القوميين العرب التي انقسمت إلى جبهتين تتنافسان على تبني الماركسية، وصارت الماركسية اسماً مستعاراً للقومية.
فتح التي بدأت مع خليل الوزير في حضن الإخوان المسلمين في غزة، فهمت أن الأيديولوجية ليست سوى أداة، وأن الأدوات السياسية كالتيارات القومية والإسلامية لم تكن يومها في وارد القتال ضد الاحتلال، فتشكلت الحركة كمشروع أيديولوجيته الوحيدة هي الوطنية الفلسطينية.
لذلك اجتمعت فيها كل التيارات من اليمين إلى اليسار، وكان شرط هذا الاجتماع هو القتال: «الوحدة في أرض المعركة».
فكرة حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، جعلت من فتح ما كانت عليه، تنظيماً ديناميكياً وبراغماتياً وقادراً على التأقلم مع مختلف الظروف، يساوم على كل شيء ما عدا على فكرة حق الفلسطينيين في القتال.
بعد حرب تشرين-أكتوبر، اكتشفت فتح أن الدول العربية الساعية إلى إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل وضعتها في المأزق، فبدأ العد التنازلي الذي وصل إلى ذروته في اتفاق أوسلو.
المناورة السياسية ممكنة، وهي في بعض الأحيان ضرورية، لكن بنية فتح لم تكن مؤهلة لهذا النوع من المناورات من جهة، كما أن إسرائيل كانت واضحة منذ اتفاق كامب ديفيد بأنها لا تريد تسوية تاريخية مع الفلسطينيين، بل أقصى تنازلاتها هو السماح لهم بإقامة حكم ذاتي تحت الاحتلال، من جهة ثانية.
بدأ الأفول لحظة التخلي عن الكفاح المسلح، وهو تخل كان بالغ التعقيد، من بحر الدم في الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، إلى انتفاضة الحجارة، لكن الأمور صارت مستحيلة بعد «عاصفة الصحراء»، والعزلة الفلسطينية الخانقة التي قادت إلى الهرب إلى الأمام، والارتماء في جحيم المفاوضات التي قادت إلى أوسلو.
وبعد أوسلو صارت فتح في مكان آخر، وهم السلام قادها إلى التحول إلى ما يشبه حزب السلطة، وهي ليست حزباً ولم تتشكل كحزب، ولم تكن قادرة على التحول إلى حزب.
والسلام كشف كل ثغرات أوسلو واستحالته، ولم يستطع عرفات وهو يرى سفينته تغرق، إنقاذها، فقاد انتفاضة الأقصى التي حوصرت دولياً بعد الحادي عشر من أيلول-سبتمبر، وسحقت عسكرياً رغم استفاقة البطولة، وخصوصاً في مخيم جنين ومدينة نابلس، وانتهت بمقتل عرفات شهيداً.
بعد مقتل عرفات بالسم الإسرائيلي لم يعد إنقاذ فتح ممكناً، وصار قائد الانتفاضة الميداني مروان البرغوثي أسيراً ومناضلو «كتائب شهداء الأقصى» ملاحقين من إسرائيل والسلطة، والحركة أصيبت بالعجز بعد تحولها إلى حزب السلطة.
تأسست فتح من أجل إخراج فلسطين من التشرذم والضياع، ومع نهاية الحركة وحلول حزب حاكم أو حزب الحاكم في مكانها، عادت فلسطين إلى التشرذم، وجاءت الأيديولوجية الإسلامية لتحل محل الأيديولوجية القومية التي كانت سائدة في الستينيات، وصارت القضية مطية لمحاور إقليمية.
فتح كحركة مقاومة كانت ضرورية في الستينيات، وفتح كحزب سلطة صارت نقيض فكرتها المؤسسة، بل صارت عبئاً على فلسطين.
أين فتح، نسأل؟ لا يليق بفتح أن تكون اسماً لفعل ماضٍ ناقص، فنقول «كانت فتح». فالفعل لم يكن ناقصاً، لكن هناك من أنقصه وحوّله من فعل إلى مفعول به.
النهر لم يجف، كي نستعيض عن الفعل بالنقصان، فالحاجة إلى حركة تحرر وطني فلسطينية لا تزال قائمة.
من يقاوم الاستيطان المتوحش ومحاولات الاجتثاث سوى إرادة البقاء والصمود.
المقاومة في فلسطين هي الخيار الوحيد، والمقاومة قادرة على أن تشق مجرى جديداً لنهر الحياة.
في ذكرى الانطلاقة تتراءى لنا احتمالات جديدة، تعيد فلسطين إلى معناها بصفتها مشروع حرية وتحرر.
*إلياس خوري كاتب وروائي لبناني
موضوعات تهمك: