أمريكا بحاجة لتفجير ثورة صناعية «رابعة» وتصادف أن انتبه منظمو المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني إلى ضرورة توفير الحاجة نفسها.
ترسم استراتيجية الأمن القومي خريطة طريق المسؤوليات المتوقع أن تتحملها مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة الأمريكية، خلال الشهور والسنوات التالية.
انفردت الوثيقة الأمريكية بإثارة احتمال أن تشهد العلاقات الدولية بالسنوات المقبلة صعوداً معتبراً في نوع غير مألوف من القوميات يسمى القومية التكنولوجية.
وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تضع ترجيحات لمسارات، أو خطط تستعد بها الدول ذات المصلحة أو الشأن، للتعامل مع سياسات أمريكا المعتمدة عليها.
يتوقع أن تحتل المنافسة حامية الوطيس مع الصين بنداً بارزاً ومتجدداً من البنود أي استراتيجية جديدة تضعها واشنطن هادياً لساستها ونخبتها الحاكمة للسنوات المقبلة.
إذا تركت المرحلة دون تدخل جذري، أو ثوري، فسنشهد بداية النهاية لإمبراطورية سبقتها إليها بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا والبرتغال وهولندا وروسيا السوفييتية.
* * *
تأخر إصدار وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي عن موعدها المعتاد، وكان لهذا التأجيل صداه في التعليقات والتحليلات. وصدرت الوثيقة بينما كان اهتمامنا مشدوداً إلى حدث له أهميته البالغة، ألا وهو انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني.
كان لاهتمامنا بالوثيقة ما يبرره، ليس لأنها في حد ذاتها حدث يتجدد في مواعيد معينة فقط، ولكن أيضاً لأنها ترسم خريطة طريق توضح المسؤوليات المتوقع أن تتحملها مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة الأمريكية، خلال الشهور والسنوات التالية.
هذه الوثيقة تضع بشكل من الأشكال ترجيحات لمسارات، أو خطط تستعد بها الدول ذات المصلحة أو الشأن، للتعامل مع السياسات الأمريكية المعتمدة على هذه الوثيقة.
تصورت مثلاً، ويبدو أنني كنت على حق، أن دولاً عربية بعينها استنفرتها الوثيقة وراحت على الفور، أو بتدرج ملحوظ تستعد لمواقف تواجه بها سياسات ومواقف أمريكية جديدة، أو غير مألوفة على صعيد العمل الدبلوماسي قديم العهد في العلاقات بين أمريكا وهذه الدول العربية.
بمعنى آخر، شعرت دول عربية، ضمن عدد أكبر من دول إفريقية وآسيوية، بأن أمريكا قررت أن تجعل سياساتها الحالية ضد الصين والاتحاد الروسي نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه سياساتها الخارجية في المستقبل، ودرساً لكل دولة تفكر في أن تضع نفسها عقبة أمام استمرار نظام الهيمنة الأمريكية، أو تعترض عليه، أو تتردد في ممارسة الطاعة والتبعية كاملتين.
وتؤكد ذاكرتنا القومية أن هذا النموذج سبق استخدامه في المنطقة العربية مرات غير قليلة، استخدم ضد مصر في منتصف الستينات، وضد العراق عند مطلع القرن الحادي وعشرين، ومستخدم الآن ضد سوريا.
كانت الأحلاف الكبرى الوسيلة المفضلة لكلا القطبين، لضمان أمنهما وأمن حلفائهما، إضافة إلى استخدامها لتوسيع مناطق نفوذهما. ويبدو لنا من خلال قراءة وثيقة الاستراتيجية الجديدة أن الولايات المتحدة سوف تفضل التركيز على تشجيع الدول الحليفة، أو الضغط عليها، لتشكيل مجموعات إقليمية بهدف تنسيق مختلف الأنشطة الأمنية للدول الأعضاء مع الاستفادة من علاقتها العسكرية والسياسية بالقطب الأمريكي إذا احتاج الأمر. ومن جانبها تحاول روسيا بعث النشاط العسكري في تجمعات إقليمية من دول تقع في فنائها الخلفي.
انفردت الوثيقة الأمريكية بإثارة احتمال أن تشهد العلاقات الدولية في السنوات المقبلة صعوداً معتبراً في نوع غير مألوف من القوميات في ما يطلق عليه القومية التكنولوجية.
وربما كان القصد من وراء إثارة هذا الموضوع التنبيه للأهمية التي صارت تحوزها شركات التكنولوجيا المتقدمة وتجمعاتها مثل وادي السيليكون، ورموزها البارزة مثل إيلون ماسك، وما شابهها، وشابهه في الصين.
وترتبط بهذه الصناعة مواد خام ضرورية ومنتجات كأشباه الموصلات، من دونها لا يتحقق التقدم المطلوب، ولا الفوز في المنافسة المتزايدة قوة ولهيباً بين الصين وآسيا، من ناحية، وأمريكا والغرب، من ناحية أخرى. والمنافسة على هذا الصعيد يمكن أن تتطور أو تتدهور إذا حقق طرف على الآخر سبقاً، أو غلبة تخلخل أركان التوازن الراهن في هذا السباق.
لم يفت على مؤلفي الوثيقة الإشارة، بالوضوح الكافي، إلى حاجة أمريكا إلى الترتيب لتفجير ثورة صناعية «رابعة». وتصادف أن انتبه منظمو المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني إلى ضرورة توفير الحاجة نفسها.
ومن قضى السنوات الأخيرة يحاول التعمق في قراءة أمريكا هو الآن في طليعة من شعروا بأن الولايات المتحدة قد دخلت بالفعل مرحلة انحدار، وإذا تركت المرحلة من دون تدخل جذري، أو ثوري، فسوف نكون شهوداً على بداية النهاية لإمبراطورية سبقتها إليها بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا والبرتغال وهولندا وروسيا السوفييتية.
وتختلف أمريكا عن هذه الإمبراطوريات الأقدم في أنها الوحيدة ربما التي تعيش أيامها الأخيرة مهددة بنشوب حرب أهلية ثانية تحمل بين بذورها بذور التدمير الذاتي، أو على الأقل، مهددة باستقطابات داخلية قد تكون رهيبة. أما الصين فلم تظهر عليها علامات انحدار.
وفي ظل الفوضى السائدة في العلاقات الدولية، والحرب الروسية الأوكرانية، وأزمات الاقتصاد العالمي بسبب وباء كورونا، توقعت أن تحتل المنافسة حامية الوطيس مع الصين بنداً بارزاً ومتجدداً من البنود أي استراتيجية جديدة تضعها واشنطن هادياً لساستها ونخبتها الحاكمة للسنوات المقبلة.
الجديد في هذه الوثيقة أنها ألمحت، ولو بكثير من الخجل، لإمكانية مزج المنافسة بالتعاون. ولا شك في أن مؤلفي الوثيقة الجديدة تنبهوا إلى حقيقة أن التعاون بين الدولتين خلال مرحلة صعود العولمة كان له الفضل في تدشين مرحلة من الرخاء غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بينهما، والعلاقات الدولية عامة.
أتفاءل بحساب، فالأيام المقبلة في واشنطن قد تحسم أموراً طال أمد التخمين بشأنها. وكثيرون منشغلون بالتفكير في مستقبل الولايات المتحدة، وفي مستقبل العقيدة السياسية للمعسكر الغربي، وفي التطورات المحتملة للقضايا الكبرى التي تقرر، مجتمعة، مستقبل الحضارة الغربية التي عشنا في ظلها قروناً عدة، ولا نزال.
*جميل مطر مفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: