أمّا بعد
لا أدري متى اختفت عبارة «أمّا بعد» من الكتابة العربية الحديثة. يعود استخدام هذه العبارة إلى خطباء العصر الجاهلي، وعلى رأسهم قس بن ساعدة، الذي قيل إنه كان أول من اتكأ على عصا وبدأ خطبه بعبارة «أمّا بعد». وقد احتلت هذه العبارة موقعاً خاصاً في تاريخ الكتابة العربية.
كانت هذه العبارة تستخدم لفصل الخطاب، جاء في «لسان العرب»: «فإذا قلت (أمّا بعد) فإنك لا تضيفه إلى شيء ولكنك تجعله غاية نقيضاً لقبل»، وقد ورد عن سيبويه أن «أمّا بعد» تأتي في معنى «مهما يكن من أمر بعد»، أي أن العبارة تستخدم عندما يصل القائل إلى جوهر الموضوع.
عندما كنت طالباً في المدرسة الثانوية سحرتني هذه العبارة التي ارتبطت في ذهني بخطبة قس بن ساعدة: «أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا…» رأيت في هذه العبارة تلخيصاً مكثفاً لبلاغة الإيجاز التي هي عنوان البلاغة العربية. يقول المتكلّم «أمّا بعد» كي يزيح النافل عن القول ويصل إلى الجوهر، أي إلى اللب الذي اعتبره ابن المقفع مبتغى الكلام.
غابت «أمّا بعد» عن أدبياتنا، اختفت من النثر والشعر داخل مبنى الحداثة التي أرادت القطع مع الماضي ومع لغته. وكان هذا جزءاً من ضرورات التغيير بحثاً عن كلمات ملائمة لحياتنا المعاصرة.
غير أن ما فات دعاة الحداثة هو أن الكلمات والعبارات تحمل تاريخاً معقّداً لا يمكن القبض عليه بسهولة. فبعض الكلمات قد تختفي وبعضها الآخر قد يموت، لكن في المقابل هناك عبارات تعود إلى الحياة من جديد، نتيجة الحاجة إليها من جهة وعدم ولادة بديل لها من جهة أخرى.
أمّا بعد، هي العبارة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها الآن، فالعبارة عادت إلى ذهني وأنا أتابع تفاصيل أسبوع المقاومة في الضفة الغربية. شعرت وسط المناخ المقاوم الذي انفجر أن الفدائيين عادوا أو هم في طريقهم إلى العودة.
وبدا لي أن أوان فصل الخطاب قد جاء، علينا أن نطوي صفحة أوسلو ونقول إنه بعد سنوات الذل التي أعقبت هزيمة الانتفاضة الثانية آن أوان الوصول إلى جوهر الموضوع، والموضوع له اسم واحد، هو المقاومة والصمود.
الشهداء: أشرف نعالوة، وصالح البرغوثي، ومجد مطير، وحمدان العارضة، ومحمود نخلة، كتبوا «أمّا بعد» بدمائهم، وقالوا إن الصفحة القديمة يجب أن تُطوى.
هذا المنعطف يأتي استكمالاً لانتفاضة السكاكين، وتتويجاً لشهادة المناضل باسل الأعرج الذي أعلن أن فلسطين وقضيتها هي اليوم أمام ضرورة تأسيس بداية جديدة.
منعطف صنعته سياسة الاستيطان الكولونيالية في الضفة الغربية، والتي أخذت شرعيتها من قانون القومية من جهة، ومن الانبطاح العربي المشين أمام أمريكا وإسرائيل الذي تمارسه ممالك النفط ومشيخاته، من جهة ثانية.
لكن ما فات أصحاب مشروع تصفية فلسطين وقضيتها هو أن فصل المقال لا يتم سوى على أرض فلسطين، وأن المقاومة بأشكالها المختلفة تمتلك الكلمة الأخيرة.
المسألة هي أننا لا نستطيع أن نقول مع الفدائيين «أمّا بعد» طالما بقيت السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير في مربّع وهم السلام.
لقد أصبحت القضية أكثر خطورة من خلاف على خيار سياسي، فالقمع الذي مارسه الأمن الفلسطيني في الخليل ونابلس، والتنسيق مع قتلة الفدائيين الذين استباحوا رام الله والبيرة ومخيمي الأمعري والجلزون، ليسا تعبيراً عن موقف سياسي، بل يعبران عما هو أشد ّخطورة ومدعاة للغضب والأسى في الآن نفسه.
لماذا هذا التنسيق المخزي بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وآلة القمع الإسرائيلية؟
والحكاية لم تبدأ اليوم، بل بدأت مع دايتون وقرار السلطة بتصفية «كتائب شهداء الأقصى» ومطاردة الفدائيين وتأسيس نظام سياسي-اقتصادي نيوليبرالي وتابع، ثم تواصلت مع التنسيق الأمني والتواطؤ على انتفاضة السكاكين، وصولاً إلى اغتيال الشهيد باسل الأعرج على أيدي قوات الاحتلال، وتعرّض والده للضرب والإهانة على أيدي رجال الأمن الفلسطيني.
وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل من تبقى من المناضلين والفدائيين في حركة فتح، ماذا أنتم فاعلون؟
هل يمكن، هكذا وببساطة، أن ترمى تضحيات عشرات ألوف الشهداء؟ هل يُعقل أن تبنى سلطة تتلقى الإهانات وتتعاون على قتل شباب المقاومة باسم منظمة التحرير التي أعاد الفدائيون صوغها منذ خمسين سنة؟
آن أوان «أمّا بعد»، وإذا كانت القيادة الحالية باتت عاجزة عن قولها، فهذا لا يعني أنها لن تقال، بل سيأتي من يقولها، وقد بدأت تباشير قدومه تلوح في الأفق، ولن ينتظركم. هذه العبارة صارت ضرورية كي نطوي صفحة الوهم والوهن.
هذا لا يعني أن طي الصفحة سيكون سهلاً أو بسيطاً، إنه فصل جديد من مسيرة الألم والمعاناة والصمود. لكن فلسطين لم تنتظر يوماً، ولن تنتظر. فأمام قرار الضم الزاحف وتحويل الفلسطينيين إلى لا مواطنين، لا خيار سوى البقاء والمواجهة.
والمواجهة تحتاج إلى لغتها الجديدة التي تتبلور اليوم في المعاناة والألم، لغة يصنعها الناس وهم يدافعون عن حقهم في الحياة، في مواجهة همجية نظام الاستيطان وجنون الفاشية التي باتت إسرائيل تشكل أحد مرتكزاتها في زمن الشعبوية وصعود العنصريات في العالم.
لقد فشل الاستسلام الفلسطيني في الحصول على الحد الأدنى من الحقوق التي يحصل عليها المستسلمون في العادة، وما على المستسلمين سوى أن يزيحوا قبل أن يُزاحوا. فلسطين تواجه خطر الإبادة السياسية، وأمام خطر الإبادة لا خيار سوى المقاومة.