أميركا والمال المظلم: فلسطين وكبار المتبرعين وانتخابات التجديد النصفي
- رغم اصطفاف صبان وأديلسون على نقيضي الطيف السياسي لكنهما يعتمدان نهج واحد في دعم إسرائيل.
- يُستبعد أن يتحدى الحزبُ الديمقراطي سياسات ترامب تجاه الفلسطينيين
- تركيز جمع التبرعات على صغار المتبرعين وتنظيم حملات جماهيرية فعالة ضروري لتحدي كبار المتبرعين.
بقلم: أسامة خليل
من المتوقع أن تكون انتخابات التجديد النصفي لسنة 2018 الأكثر تكلفة في التاريخ الأميركي. ففي حين ساهمَ في انتخابات التجديد النصفي لسنة 2014، أي قبل أربع سنوات، عددٌ أقل من المتبرعين مقارنةً بالانتخابات التي سبقتها، إلا أن مساهمة هؤلاء فاقت المساهمات المقدمة في الانتخابات السابقة. ومن المتوقع أيضًا أن يعتمد الديمقراطيون والجمهوريون على كبار المتبرعين مرةً أخرى في تغطية تكاليف حملاتهم الانتخابية. ولغاية اللحظة، يتفوق الديمقراطيون على الجمهوريين في حجم التبرعات المجموعة، ما حدا بالحزب الجمهوري إلى طرق باب الملياردير إمبراطور الكازينوهات شيلدون أديلسون.
يُعدُّ أديلسون من كبار المتبرعين للحزب الجمهوري على مدار العقد الماضي. ويُقال إنه أثَّر في قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل في أواخر العام الماضي، وإنه تكفل بجزء من تكاليف بناء السفارة الأميركية الجديدة في القدس. ويُقال أيضًا إن الجمهوريين لَمّا واجهوا عددًا كبيرًا من الحملات المنافسة في الانتخابات “يأسوا وقصدوا ملايين أديلسون.” وقُبيل افتتاح السفارة الجديدة في القدس، تبرَّع أديلسون بمبلغ 55 مليون دولار لصندوق قيادة الكونغرس التابع للحزب الجمهوري وصندوق قيادة مجلس الشيوخ. وهذه المساهمة تفوق ما قدمه أديلسون لهذا الصندوق في 2016 بثلاثة أضعاف، وليس ذلك وحسب وإنما جاءت في موعد أبكر بكثير. وفي الأسابيع الأخيرة قبل انتخابات التجديد النصفي تبرع، وبحسب التقارير، بما يزيد عن ذلك لصندوقي قيادة الكونغرس ومجلس الشيوخ.
تبين مشاركةُ أديلسون التأثيرَ الهائل الذي يمارسه المتبرعون الكبار في الحملات السياسية الأميركية وفي طريقة صياغة السياسات المحلية والخارجية وتنفيذها. تتطلب الدورات الانتخابية التي تنعقد كل سنتين وأربع سنوات في الولايات المتحدة تمويلًا ضخمًا وعمليةً شبه مستمرة لجمع التبرعات السياسية يقوم بها المرشحون والأحزاب السياسية. وعلى أقل تقدير، تؤثر المساهمات الكبيرة التي يقدمها الأفراد والمؤسسات للحملات الانتخابية في معايير الحوار المقبول حول السياسات المحلية والخارجية في الولايات المتحدة. وكما هي حال المتبرعين والناخبين الآخرين المدفوعين بمواقفهم إزاء القضايا على اختلافها، يموِّل المتبرعون والناخبون المؤيدون لإسرائيل المرشحين الذين يشاطرونهم توجهاتهم ويعارضون مَن لا يشاطرها.
وعندما يُنتخَب السياسيون المدعومون من المتبرعين المؤيدين لإسرائيل، فإنهم عادةً ما يؤيدون تلك السياسات التي تعكس الانحياز الأميركي لإسرائيل وتعززه. ومع أن ذلك التأييد قد يكون مبنيًا على أساس المبادئ المشتركة، فإن السياسيين دائمًا ما يخشون من أن يموِّل المتبرعون مرشحًا من المعارضة بسبب تصويتٍ أو موقف ما إزاء سياسة معينة. وهذا لا يقتصر على مسألة إسرائيل، كما هو واضح من الجدل الدائر حول تقييد إمكانية الحصول على قطع السلاح في الولايات المتحدة. وهذه العوامل سوف تطفو على السطح مجددًا مع انتخابات التجديد النصفي التي ستجري في 2018.
صبان وأديلسون: دعمٌ لإسرائيل من كلا الحزبين
في حين يسخى أديلسون في دعمه الجمهوريين، يُركز نظيره المؤيد لإسرائيل حاييم صبان على الديمقراطيين. نقلت مجلة نيويوركر في العام 2010 عن قطب الترفيه حاييم صبان قولَه إن “الطرق الثلاث المؤثرة في السياسة الأميركية” هي التبرع للأحزاب السياسية، وإنشاء مراكز البحث والفكر، والتحكم بوسائل الإعلام. وقبلها بست سنوات، لخَّص صبان في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز اهتمامَه في الشؤون السياسية والسياسة الخارجية بعبارة بسيطة: “أنا لدي قضية واحدة، وقضيتي هي إسرائيل.” وعلى الرغم من أن صبان وأديلسون ينتميان إلى طرفي الطيف السياسي الأميركي، إلا أنهما يعتمدان نهجين متشابهين في دعمهما لإسرائيل.
السياسة
تبرَّع أديلسون منذ 2008 بأكثر من 170 مليون دولار لمرشحي الحزب الجمهوري. وفي 2008، كان المساهم الأكبر للجنة العمل السياسي الحديثة النشآة آنذاك “فريدوم ووتش”، والتي ضمت قيادتها أعضاء سابقين في إدارة جورج بوش الابن. تتلقى لجان العمل السياسي (Super PACs) تمويلًا غير محدود من الأفراد والاتحادات والشركات. تفرض لجنة الانتخابات الفيدرالية (FEC)، وهي هيئة تشريعية مستقلة تعمل على إدارة وانفاذ قوانين تمويل الحملات الانتخابية تدير وتنفذ قانون تمويل الحملات في الولايات المتحدة، على تلك اللجان السياسية الإفصاح عن التبرعات التي تتلقاها والأموال التي تنفقها. وبالرغم من أن القانون يحظر على لجان العمل السياسي دفع المساهمات مباشرة للمرشحين الأفراد أو التنسيق معهم، إلا أن الرقابة على تلك اللجان متهاونة في هذا الشأن، وغالبًا ما تكون الغرامات ضئيلة ولا تكاد تُذكر. أنفق شيلدون أديلسون في انتخابات العام 2012 30 مليون دولار ذهبت أدراج الرياح حين حقق الحزب الديمقراطي نصرًا مؤزرًا في الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس، وبعدها أقفلت فريدوم ووتش أبوابها.
وبعد أربع سنوات، تعهَّد أديلسون بإنفاق 100 مليون دولار لهزيمة الرئيس باراك أوباما. وكان في بادئ الأمر قد دعم تطلعات نيوت غينغريتش لتولي منصب الرئاسة. شغل غينغريتش منصب رئيس مجلس النواب الأميركي في الفترة 1995-1999، وكان شخصيةً قيادية في الجناح اليميني الجمهوري ومنافسًا قوياً للرئيس بيل كلينتون آنذاك. وفي كانون الأول/ديسمبر 2011، بعد سبعة أشهر من إعلان ترشحه للرئاسة، أجرت القناة التلفزيونية اليهودية مقابلةً مع غينغريتش، قال فيها: “أعتقد أن الشعب الفلسطيني شعبٌ مختلق، فهم في الواقع عرب كانوا على مر التاريخ جزءًا من المجتمع العربي.” وأضاف أن الفلسطينيين حظوا “بفرصة ليذهبوا إلى العديد من الأماكن، ولأسباب سياسية متعددة استدمنا [أي الولايات المتحدة] هذه الحرب ضد إسرائيل منذ الأربعينات وحتى الآن، وهذا محزن للغاية”. غير أن غينغريتش خسر بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري لحاكم ولاية ماساتشوستس السابق ميت رومني، بعد أن أنفق أديلسون 15 مليون دولار على حملته الانتخابية.
استفاد رومني أيضًا باعتباره المرشح الرئاسي للحزب الجمهوري من سخاء أديلسون، حيث تلقى بحسب التقارير 20 مليون دولار. وبعد حصوله على بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري، شدَّ رومني الرِحال إلى إسرائيل في تموز/يوليو 2012. وأُجلِس بجانب أديلسون في حفل أُقيم لجمع التبرعات في القدس. وتجاهل رومني في كلمته الاحتلالَ الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وآثاره على المجتمع الفلسطيني واقتصاده. وادعى رومني بأن حيوية الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما عند مقارنته باقتصاد السلطة الفلسطينية، تُعزى إلى جملة أسباب منها تفوق إسرائيل الثقافي على الفلسطينيين.
وبالإضافة إلى هذه التبرعات المباشرة، ساهم أديلسون بما لا يقل عن 45 مليون دولار في لجان العمل السياسي وصناديق إعادة الانتخاب التابعة للحزب الجمهوري. ويُعتقد في الأوساط العامة أن تبرعات أديلسون بلغت 150 مليون دولار دعمًا لمرشحي الحزب الجمهوري في 2012، ولكنه أخفق إلى حد كبير في تحقيق النتيجة المرجوة إذ أعيد انتخاب أوباما، وحصدَ الديمقراطيون مقاعد إضافية في الكونغرس.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن النظام الانتخابي في الولايات المتحدة يتيح للأفراد أن يتبرعوا لمنظمات غير مطالَبة بإبلاغ الحكومة الأميركية بأسماء المتبرعين الى لجنة الانتخابات الفيدرالية 2 (FEC). تُعرَف هذه التبرعات باسم “المال المظلم”، وقد زاد حجمها زيادةً مطردةً في السنوات الثمان الماضية بعد أن أصدرت المحكمة العليا الأميركية في العام 2010 حكمًا مثيرًا للجدل في قضية مواطنون متحدون ضد اللجنة الانتخابية الفيدرالية، والذي قضت فيه بعدم دستورية منع الشركات أو المنظمات من دعم أو معارضة مرشح ما أو قضية معينة من خلال الإعلانات مدفوعة الثمن. ومع ذلك، لم تُلغِ المحكمةُ الحظرَ المفروض على المساهمات المباشرة من الشركات والمنظمات للمرشحين الأفراد. لذا من المستبعد أن يكون المتبرعون الكبار مثل أديلسون قد حصروا تبرعاتهم في منظمات المال المعروف المصدر. بل إن مجموع مساهمات أديلسون قد تكون أكثر بكثير مما تُفيد به التقارير.
قلَّص أديلسون مشاركته في انتخابات 2016 بعد النتائج السيئة التي مني بها المرشحان الجمهوريان في عامي 2008 و2012، ولم يدعم مرشحًا محددًا في العلن. ولكنه تبرَّع بما لا يقل عن 82 مليون دولار للمجموعات السياسية المعارِضة لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، وللحملات الرئيسية في انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب. وهذا يتضمن 20 مليون دولار تبرع بها اديلسون الى لجنة العمل السياسي التي دعمت ترامب.
استفاد أديلسون ماديًا من تبرعاته ونفوذه. ففي أواخر 2017، صادقَ الرئيس ترامب على مشروع قانون أحدث تغييرات رئيسية على قانون الضريبة الأميركي، وبفضله حققت شركة لاس فيغاس ساندز المملوكة لأديلسون مكاسبَ بلغت 700 مليون دولار.
وفي المقابل، يركَّز حاييم صبَّان تبرعاته على الحزب الديمقراطي، حيث تبرَّع في الفترة ما بين 1999 و2008 بما يزيد على 11 مليون دولار لمرشحي الحزب. وكان صَّبان من كبار الداعمين وجامعي التبرعات لحملة هيلاري كلينتون للظفر ببطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي في 2008. وفي العام 2012، تبرَّع صبان بما لا يقل عن 1.3 مليون دولار، واستهدفت التبرعات في معظمها حملات المرشحين لمجلسي الشيوخ والنواب. وبعد أربع سنوات، تبرَّع صبَّان بأكثر من 11.9 مليون دولار للحزب الديمقراطي وحملة كلينتون الانتخابية الفاشلة في 2016.
اللوبيات، وسائل الإعلام الإخبارية، مراكز الفكر والبحث
لا تحكي التبرعات الانتخابية سوى جانبٍ واحدٍ من القصة. فبالإضافة إلى التبرعات السياسية، وسَّعَ أديلسون نفوذه في الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث يُعدّ من الممولين الرئيسيين لمنظمة حق الأبناء في إسرائيل (Birthright-Israel) التي تمنح الشباب اليهود الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و26 رحلات مجانية لإسرائيل، وهو من كبار الداعمين للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. وكان كذلك داعمًا نشطًا للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) المناصِرة لإسرائيل. وفي حين تبرَّع صبَّان بمبلغ 7 ملايين دولار لتشييد المقر الجديد للجنة الوطنية الديمقراطية، ساهمَ أديلسون في إنشاء مكتب آيباك الجديد في واشنطن العاصمة، كما ساهم في تمويل جولات في إسرائيل للمشرِّعين الجمهوريين برعاية آيباك.
انتقد أديلسون آيباك بعد تأييدها لزيادة المساعدات الأميركية المقدمة للسلطة الفلسطينية، ويُقال إنه قاطعها على أثر ذلك. ودأب منذ ذلك الحين على التبرع إلى منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل،” وهي منظمة مسيحية إنجيلية يترأسها القس جون هاجي. وكانت هذه المنظمة من الداعمين البارزين لاعتراف واشنطن بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وكان هاجي من المُهللين لقرار ترامب.
يستثمر صبان وأديلسون كلاهما في وسائل الإعلام الإخبارية. صبان هو رئيس شبكة يونيفيجن وأحد مالكيها، وهي شبكة تلفزيونية ناطقة بالإسبانية ومقرها الولايات المتحدة. تتمتع شبكة يونيفيجن بنسبة مشاهدة عالية، وقد انتقدتها حملة ترامب الانتخابية إبان انتخابات 2016 على خلفية تغطيتها وانحيازها الواضح لهيلاري كلينتون. وعلى النقيض، ركّز أديلسون على وسائل الإعلام المطبوعة. فأصدر في 2007 صحيفة “إسرائيل اليوم” اليومية المجانية وثيقة الصلة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وبعد ثماني سنوات، اشترى في السر صحيفة “لاس فيغاس ريفيو جورنال”، التي كانت صحيفة المدينة الرائدة وكثيرًا ما انتقدت في تغطيتها أديلسون وسياسات شركته. وقد ترك الصحيفةَ عددٌ من الصحفيين والمحررين بعد أن اشتراها أديلسون.
مراكزُ الفكر والبحث ساحةٌ أخرى ينشطُ فيها صبان وأديلسون. بعد فشل قمة كامب ديفيد سنة 2000 وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قرر صبان إنشاء مركز بحثي فكري يركز على الشرق الأوسط وتأمين مستقبل إسرائيل. فتبرَّع بمبلغ 13 مليون دولار لمؤسسة بروكينغز، والتي أسست مركز صبان لسياسة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن مؤسسة بروكينغز تُعدُّ عمومًا مؤسسة بحثية وفكرية معتدلة تربطها علاقات بالحزب الديمقراطي، إلا أن الباحثين المنتمين إلى مركز صبان دعوا علنًا إلى غزو العراق واحتلاله في 2003. وما انفك المركز، وغيره من مراكز الفكر والبحث في واشنطن، يدعو بشكل متزايد إلى إدارة النزاع الناشئ عن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وليس إلى حله.
يستضيف صبان محفلًا سنويًا في مؤسسة بروكينغز. وقد استضافَ قبل إعلان ترامب بشأن القدس صهرَ الرئيس المستشار جاريد كوشنر. تدير أسرة كوشنر مؤسسةَ كوشنر الخيرية التي تبرعت بأموال لمستوطنة بيت إيل المقامة بالقرب من رام الله على أرضٍ فلسطينية خاصة استولت عليها إسرائيل. وتتلقى هذا المستوطنة دعمًا من أميركيين أثرياء آخرين عبر منظمة تدعى “أصدقاء مؤسسات بيت إيل الأميركيون.” وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس السابق لهذه المنظمة هو السفير الأميركي الحالي في إسرائيل، ومحامي ترامب السابق، ديفيد فريدمان.
وبالرغم من أن صبان يُعلن تأييده لحل الدولتين وتقسيم القدس في إطار اتفاق نهائي مع الفلسطينيين، إلا إنه لم ينتقد دعمَ كوشنر للمستوطنات، بل شَكرَه على جهوده المبذولة في أواخر 2016 لإحباط صدور قرار في مجلس الأمن الدولي ينتقد المستوطنات الإسرائيلية، وهو قرارٌ كانت تؤيده إدارة أوباما قبل تنصيب ترامب. وهذا التدخل العلني من جانب الرئيس المنتخب ترامب في جهود إدارة أوباما المتأخرة والخجولة وقبل تنصيبه، لم يكن مسبوقًا ولربما قد شكَّل انتهاكًا للقانون الأميركي. ومع ذلك، قال صبان لكوشنر: “لا شيئًا غير قانوني في ذلك، بحسب عِلمي. وأنا أعتقد أن هذا الحضور – وأنا شخصيًا – نريد أن نشكركم على بذل هذا المجهود. فشكرًا جزيلا لك.” ولم ينتقد صبان علنًا قرار ترامب بشأن القدس.
وفي المقابل، اختار صبّان أن يصبَّ غضبَه على منتقدي إسرائيل. ففي أيار/مايو، وبَّخ ستة أعضاء في مجلس الشيوخ من الحزب الديمقراطي لتوقيعهم رسالةً تطلب من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن يساعد في تخفيف وطأة الأزمة الإنسانية في غزة. وكانت تلك الرسالة ردًا على المجزرة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون بحق المحتجين الفلسطينيين في غزة المشاركين في مسيرة العودة الكبرى. فكتب صبان: “أنْ تستمع إلى عضو مجلس الشيوخ [بيرني] ساندرز ثم تتهم إسرائيل بأنها المجرم الرئيس لهو أمرٌ مُشين ومضلل وجارح وينم عن جهل بأساسيات المنطقة.” وعاتب أعضاء مجلس الشيوخ هؤلاء بقوله: “تفقهوا أولا.”
وعلى غرار صبَّان، أنشأ أديلسون مركزًا بحثيًا وفكريًا باسم “معهد أديلسون للدراسات الاستراتيجية” في 2006 بعد أن تبرَّع بمبلغ 4.5 مليون دولار لمركز شاليم المحسوب على المحافظين الجدد في القدس. استضاف المعهد في مؤتمر نظَّمه سنة 2007 شخصيات معارِضة بارزة من الشتات الإيراني. وحضر الفعالية أديلسون شخصيًا واستنكر على كلِّ مَن لم يحبذ مهاجمة إيران. وأعلنها بحسب التقارير: “أنا حقًا لا أُبالي بِما يحدث لإيران. ما يهمني هو إسرائيل.”
يتفق صبان وأديلسون على ضرورة إيقاف حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. وقد وضعا خلافاتهما الحزبية جانبًا في 2015 وتضافرا في الجهد والمال لمجابهة حركة المقاطعة. وبُعيد اجتماع صبَّان وأديلسون في لاس فيغاس، صادقت هيلاري كلينتون على جهودهما في إطار حملتها الانتخابية لمنصب الرئاسة. وقالت في رسالة لصبّان روَّستها بشعار حملتها الرسمي: “أعلم أنك تتفق بأن علينا أن نولي الأولية لمجابهة حركة المقاطعة.” وأضافت: “أنا أطلب مشورتك حول كيفية العمل سويًا – على اختلاف الانتماءات الحزبية ومع تعدد الأصوات – لكي نوقف هذا التوجه بالمعلومات والدعوة والمناصرة، ونصدّ المحاولات المستقبلية الرامية إلى عزلة إسرائيل ونزع الشرعية عنها.”
تقترح رسائل البريد الإلكتروني التي تم اختراقها خلال حملة كلينتون الانتخابية بأن الرسالة قصدت إرضاء المتبرعين قبل أن تُعلن كلنتون دعمها للاتفاق النووي الإيراني المبرم في 2015 بعد التفاوض مع إدارة أوباما. وبعد خمسة أشهر من رسالة كلينتون، استضاف صبّان اجتماعًا خاصًا في مركز صبان لمواجهة حركة المقاطعة. وحتى بعد تأمين بطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي، منعت حملة كلينتون استخدام كلمة “احتلال” في برنامج الحزب الديمقراطي الانتخابي للإشارة إلى الحكم العسكري الإسرائيلي للفلسطينيين. غير أن التقارير الإعلامية الأخيرة تشير إلى أن الشراكة المناوِئة لحركة المقاطعة بين صبان وأديلسون قد انهارت وأنهما توقفا عن تنسيق جهودهما في هذا الصدد.
تحقيق تقدم في مجابهة المتبرعين الكبار
تُبين الأفعالُ والأقوال الصادرة من زعماء الحزب الديمقراطي، بمن فيهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ العضو تشارلز شومر، أن من المستبعد أن يتحدى الحزبُ الديمقراطي سياسات ترامب تجاه الفلسطينيين. وتعكس أيضًا الإجماعَ الحزبي في الولايات المتحدة تجاه الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأرض الفلسطينية. وبالرغم من أن التوقعات تشير إلى فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب في تشرين الثاني/نوفمبر، إلا أن تأثيرالمتبرعين الكبار الموالين لإسرائيل مثل صبان وأديلسون سوف يشتد على الأحزاب السياسية تحضيرًا لانتخابات 2020 الرئاسية.
غير أن الأمل لا يزال قائمًا للناشطين الفلسطينيين وحلفائهم. فالانتصارات التي أحرزها المنافسون التقدميون في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي تبين مدى الإحباط من معتقدات الحزب وممارساته المتقادمة ومحدودية التأثير الذي يمارسه المتبرعون الكبار. وتكشف أيضًا بأن دعم الحقوق الفلسطينية قد لا يُعدُّ بعد اليوم سببًا لإقصاء المترشحين للمناصب العليا أو الإضرار بفرصهم. ومع أن بعض المرشحين التقدميين سارعوا إلى التعبير عن معارضتهم لحركة المقاطعة، فإنه ينبغي لناشطي التضامن الفلسطينيين أن يستمروا في إقامة تحالفات وائتلافات عريضة مع الأفراد ومنظمات المناصرة بناءً على القيم المشتركة المتمثلة في مناهضة العنصرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. ولا بد أن يحددوا المرشحين على مستوى الولايات والمحليات الذين يشاطرونهم هذه القيم، وأن يدعموهم من أجل بناء حركة تدفع باتجاه التغيير الحقيقي. وعلاوة على ذلك، لا بد من مساءلة المرشحين عن مواقفهم وعن الدعم الذي يتلقونه، ولا سيما من المنظمات المعارِضة لحقوق الفلسطينيين.
وكما التواصل مع المنظمات اليهودية التقدمية في أميركا الشمالية وأوروبا وإسرائيل، يُعدّ التنسيق مع المجتمعات الإنجيلية الأميركية الداعمة أمرًا ضروريًا. ومع أن الإنجيليين يشكلون بحسب التقديرات 25% من البالغين الأميركيين، ودرجوا على دعم إسرائيل، إلا أن هناك انقسامات كبيرة أخذت تظهر في صفوفهم. ويُعزى بعض السبب في ذلك إلى أهمية الدور الذي يلعبه الفلسطينيون المسيحيون ووثيقة كايروس فلسطين في وصف واقع الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما في المدن الفلسطينية التي يقصدها السواح مثل القدس الشرقية وبيت لحم.
وهناك أيضًا انقسامات بين الأجيال في مجتمع الإنجيليين كما في المجتمع اليهودي الأميركي. فثمة عددٌ متزايد من الإنجيليين الشباب الذين يتبنون مواقف أكثر تقدمية إزاء القضايا الاجتماعية. وقد أظهراستطلاع أُجري مؤخرًأ بأن الإنجيليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا ينظرون إلى إسرائيل باستحسان وتعاطف أقل مقارنةً بالإنجيليين الذين تجاوزوا سن 65 (58% إلى 76%).
لا تقتصر تأثيرات “المال المظلم” على الفلسطينيين أو على سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط. بل إن الحاجة إلى إجراء إصلاحات شاملة في تعليمات تمويل الحملات الانتخابية باتت أكثرَ إلحاحًا وصعوبة من ذي قبل. وفي ظل غياب الإصلاح، تصير جهود جمع التبرعات المركِّزة على صغار المتبرعين وتنظيم الحملات الشعبية الجماهيرية الفعالة أمرًا ضروريًا لتحدي أجندة المتبرعين الكبار.
* د. أسامة خليل أستاذ التاريخ المشارك بجامعة سيراكيوز، مؤلف كتاب: America’s Dream Palace: Middle East Expertise and the Rise of the National Security State (Harvard University Press, 2016).
المصدر: شبكة السياسات الفلسطينية (الشبكة)