أفول الحقبة الريعية في العالم العربي
- المنطقة مرشحة لاضطرابات باعتبار أن 2011 و2014 مجرد عوارض أولية لتحول عميق في المنطقة!
- عقود اجتماعية سابقة أدامت استقرارا مصطنعا تتفكك والمنطقة بحاجة لعقود جديدة تجنبها قلائل أخرى.
- الحكومات تستديم احتكار صناعة القرار وعدم تطوير أنظمة سياسية من التوازن والحوكمة الرشيدة.
- مطلوب ترك النظام الريعي وانتقال سلس لنظام يعتمد الإنتاجية وتعظيم النمو وتمكين ذوي الدخل المحدود.
بقلم: مروان المعشر
ضرب العالم العربي في العقد الحالي إعصاران، كان الأول منهما أكثر ظهورا للعيان، و سمي بتفاؤل “الربيع العربي”، و كان عبارة عن احتجاجات شعبية ضد ضعف الحوكمة في المنطقة.
وعقدت آمال واسعة في حينه، أن هذه الاحتجاجات ستنتج حقبة جديدة تسودها الديمقراطية و سيادة القانون. لكن هذه الاحتجاجات، ربما باستثناء تونس، تبعتها ثورات مضادة واضطرابات جديدة وحروبا أهلية.
ثم جاء إعصار آخر في 2014 عندما انخفضت أسعار النفط، مهددة نظام الحوكمة الذي بني في المنطقة على أساس النفط. فأدت الأسعار المتدنية الجديدة لصعوبة استمرار تمويل موازنات متضخمة، أو محاباة طبقات ونخب، أو تجاهل الحاجة لإصلاحات تم تأجيلها في السابق لوقت طويل. هذه ليست حالة طارئة، لأن أسعار النفط لن تعود على الأغلب لمستوياتها قبل العام 2014.
قد يبدو على السطح أن العديد من الدول العربية استطاعت تجاوز هذين الإعصارين. لكن المنطقة مرشحة لمزيد من الاضطرابات، باعتبار أن 2011 و2014 ليسا إلا عوارض أولية لحالة تحول عميقة تجري في المنطقة!
وهي أن العقود الاجتماعية السابقة التي حافظت على الاستقرار المصطنع تتعرض اليوم للتفكيك، وأن هناك حاجة للمنطقة لصياغة عقود اجتماعية جديدة تجنب العالم العربي مزيدا من القلائل.
لقد استخدمت الحكومات العربية النفط و لأكثر من خمسين عاما لتمويل أنظمة ريعية. و قد استخدمت هذه العوائد لخلق الوظائف في القطاع العام، إضافة لتقديم خدمات أساسية كالصحة و التعليم مقابل قبول المواطنين بضعف تمثيلهم سياسيا في عملية صنع القرار.
أما وقد كبر حجم القطاع العام درجة التخمة في الكثير من هذه البلدان، بينما انخفضت أسعار النفط، فإن المعادلة التي ارتكزت عليها العقود الاجتماعية القديمة بدأت بالاختلال بسبب عدم قدرة الحكومات على الحفاظ على نوعية الخدمات المقدمة.
بينما لا تزال تصر على احتكار صناعة القرار وعدم تطوير أنظمة سياسية من الفصل و التوازن لضمان حسن الحوكمة. كما أنها خلقت طبقات ريعية حولها أخذت بالانعزال المتزايد عن الناس.
ثم جاء إعصار 2014. في شهر آب (اغسطس) من ذلك العام، هبط سعر النفط دون 100 دولار للبرميل بعد أن كان قد وصل لأكثر من 140 دولارا.
كانت النتيجة المباشرة لذلك أن الدول المصدرة للنفط لم تعد قادرة على الاستمرار في أنظمة “الرفاه”، كما أن الدول المستوردة للنفط لم تعد أيضا قادرة على الاستمرار في الاعتماد على المساعدات النفطية أو تحويلات العاملين في تلك الدول لإدامة أنظمتها شبه الريعية هي الأخرى.
أدى النظام الريعي في الأردن إلى وصول الدين العام إلى 96% من الناتج المحلي الإجمالي.
بل إن عدم التركيز على الإنتاجية، إضافة إلى تدني النظام التربوي وضعف المناخ التشريعي الملائم لتهيئة القطاع الخاص لاستيعاب عدد كبير من القوى العاملة بدلا من القطاع العام، أديا لتراكم البطالة لتصل إلى 18.5% اليوم، وأكثر من 30% بين فئة الشباب.
و لم تعد المعالجة الاقتصادية البحتة مقبولة لدى قطاعات واسعة و خاصة لدى الشباب الذين يطالبون اليوم بنهج جديد يعطيهم صوتا تمثيليا أكبر.
لعل ذلك الدرس الرئيس من الإعصارين اللذين حلا بالمنطقة، من ضرورة الابتعاد عن النظام الريعي والانتقال السلس والمتدرج لنظام يعتمد الإنتاجية وتعظيم النمو وتمكين الفئات ذوات الدخل المحدود.
لعل الدرس الأكبر أن مثل هذا الانتقال السلس و المنتظم لن يتأتى دون توازيه مع إصلاح سياسي حقيقي يشرك المواطن جديا في عملية صنع القرار و يشعره أنه شريك في القرار الاقتصادي الذي سينتج عنه صعوبات مرحلية قبل الوصول لشاطئ الأمان.
لن يؤدي تجاهل ضرورة توازي المسارين الاقتصادي و السياسي إلا إلى المزيد من الاحتجاجات.
* د. مروان المعشر مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط، نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأردني الأسبق.
المصدر: الغد الأردنية