أفعل التفضيل في الخطاب الإعلامي
يسود الخطاب الإعلامى والسياسى أفعل التفضيل. فكل شىء هو أعظم وأفخم وأكبر. فالشعب أكثر الشعوب حبا لبلاده. وتاريخه أعظم تاريخ من تواريخ الأمم. وزراعته من أفضل الزراعات في العالم. وصناعته من أحسن الصناعات. وجامعاته من أعلى الجامعات في مستوى العلم والبحث العلمى. وهواؤه أنقى هواء. وماؤه أصفى ماء. وإيمانه أقوى إيمان. وجيشه من أقوى الجيوش.
وينتقل هذا التفضيل إلى الخطاب السياسى. فالنظام أكثر النظم ديمقراطية. والانتخابات أزهى الانتخابات. والاقتصاد أقوى أنواع الاقتصاد. والحياة أطول حياة عند المعمرين.
والإيمان أقوى صلابة، وأشد ممارسة لشعائره. وفى العلاقات الاجتماعية هو أخلص صداقة. وبتحليل مضمون الخطاب الكلامى والسياسى والاجتماعى والتربوى يسود أفعل التفضيل. وربما كان هذا صدى للخطاب الدينى. فنحن «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ». وديننا أكمل الأديان.
وعقائدنا أنقى العقائد. فالتكبير ركيزة الخطاب الدينى في «الله أكبر» التي تطلق في الحرب وفى الذبح وفى لحظات الحزن والفرح والإعجاب على حد سواء.
وفى أفعل التفضيل يغيب العقل النقدى الذي يبين المسافة بين ما ينبغى أن يكون وما هو كائن، بين المثال والواقع. وهو أساس التقدم، والانتقال من النقص إلى الكمال. النقد هو أساس التحسين.
والمنهج النقدى له إنجازاته في فهم النصوص الدينية والأدبية والقانونية والتاريخية. وفى غياب العقل النقدى يحضر العقل التبريرى الذي يبرهن على صحة المقدمات التي يعرف صحتها من قبل.
وهو العقل المستخدم في تبرير النظم السياسية ويخفى أخطاءها. ويبرر صحة العقائد الدينية حتى تعددت الأديان وتفرقت بل تخاصمت وحاربت بعضها بعضا.
كل دين يدعى أنه أصدق وأصح وأفضل وأعظم وأكمل من الدين الآخر. وتعلو الأصوات. وتتعدد البرامج الدينية التي تثير النفوس، الاعتزاز بالنفس والحقد على الآخر.
واللجوء إلى أفعل التفضيل يعبر عن العجز عن التعامل مع الواقع كما هو وتغييره. فيتم الهروب منه واللجوء إلى ما بعد الواقع، إلى القوى الغيبية المتحكمة فيه. ويحدث ذلك نتيجة للجهل بالأسباب التي جعلت الواقع على ما هو عليه، نقصا بمعرفته، والقدرة على تغييره.
فيتم تغطية الموقف كله بالخطابة والبلاغة والصور الفنية وكل أنواع الإنشائيات والقصص والروايات الخيالية ومنها أفعل التفضيل. وهو يجذب الانتباه. ويثير الإعجاب. بل إن الذات تتضخم كلما زاد استعمال أفعل التفضيل. والإعجاب بالذات على غير أساس، أن جيشنا من أقوى جيوش العالم وأكثرها تدريبا مما أدى إلى هزيمة 1967.
واستمر أفعل التفضيل على نحو عكسى، من أفضل إلى أسوأ، ومن أكثر إلى أقل، ومن أمهر إلى أضعف، ومن الأكثر استعدادا إلى الأقل. فنحن الأقل قدرة على التعامل مع العلم، والأضعف ذهنا للإبداع العقلى، والأقل حضورا في التاريخ الحضارى.
أفعل التفضيل بالزائد يعطينا إحساسا بالرضا، والاستكانة وعدم الحاجة إلى شىء أفضل ما دمنا حصلنا على الأفضل والأعظم والأكبر. ويحدث تساؤل لاشعورى عن الخلاف بين القول والواقع. فكيف نكون أفضل والقمامة تملأ الشوارع ولا نعرف كيف نجمعها. ونستعين بشركات أجنبية تعلمنا ذلك، وديننا يقوم على الطهارة.
وهى أكبر جزء في كتب الفقه القديم، الوضوء والاستحمام وحلق العانة والاستنجاء وتقليم الأظافر وحلق الرأس. ويصبح أفعل التفضيل نوعا من الدعاية التي تقوم على المغالاة والحكم بأن هذا المنتج الأفضل والأحسن والأجمل والأرخص والأمتن والأجود والأعظم وأفضل ما أنتجه البشر على وجه الأرض. ويتحول الإعلان إلى كذب صريح. ولا يتناول الإعلام الأقل. ويخفى النقص. ويساهم في سلوك النفاق التجارى. ويشيع خداع النفس وخداع الآخرين.
وفى لحظة ما ينكشف المستور. ويظهر المخبأ بثورة الواقع ضد الإعلام الكاذب. ويسد أذنيه في مواجهة أفعل التفضيل المتكرر. ويكتشف أن الأقوى هو الأضعف، وأن الأجمل هو الأقبح، وأن الأحسن هو الأسوأ، وأن الأكبر هو الأصغر. وتزاح التعمية من على العيون ضد ما تسمعه الآذان.
ونعود من جديد إلى التفرقة بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون حتى يتم التقدم من الواقع إلى المثال، ومن حكم القيمة إلى حكم الواقع. وبيان النقص ليس عيبا. وهى بداية الوصول إلى الكمال. رحم الله امرأ أبان لى عيوبى، وفى نفس الوقت رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
نهاية أفعل التفضيل هي نهاية المبالغات، ووضع حد للنفاق، وعدم الإحساس بالخوف إن لم يعتمد الخطاب الإعلامى والسياسى والدينى على أفعل التفضيل. إن وجود أفعل التفضيل في اللغة لمقارنة شىء بمثله وليس لتعظيم شىء على حساب الأشياء الأخرى.
حتى ولو كان صحيحا الأفضل والأعظم والأكبر فإنه يؤدى إلى الغرور بالذات والاستكبار على الآخرين ثم استغلالهم. فالأعلى أفضل من الأدنى، والأكبر أعظم من الأصغر. والإنسان لم يخرق الأرض ولم يبلغ الجبال طولا. والأبيض أجمل من الأسود. ويرد عليه الأسود ولكن «الأسود جميل»، «الأسود ملك الألوان»، وفى كلتا الحالتين لم يخرق الإنسان الأرض ولم يبلغ الجبال طولا.
ويكون التفضيل باستمرار إيجابيا، أفخم، وأعظم، وأكبر. ولا يستعمل على نحو سلبى، أسوأ، وأفقر، وأقل، وأجهل، وأمرض. هنا على الأقل يكون للتفضيل فائدة. وهو الكشف عن الواقع كما هو، وعدم تغطيته وادعاء العكس. والقرآن الكريم يستعمل أفعل التفضيل على نحو عكسى مثل «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ» وعشرات الآيات الأخرى.
فالسلب جزء من الإيجاب. وإذا كنا أعظم وأفضل وأكبر وشئنا التقدم فإلى أين نذهب وقد بلغنا حد الكمال؟ وإذ ولد الأعظم والأفخم والأحسن فينا عقدة العظمة فكيف يتعاون الآخرون معا خوفا من أن يصابوا هم أيضا بعقدة النقص؟ وإذا كنا أفضل وأعظم فلماذا نمد أيدينا إلى من هم أنقص منا أو لمن هم أعظم منا في المعونات الخارجية لسد العجز العام في الموازنة، وجلب أموال الاستثمار لزيادة الدخل للتغلب على زيادة السكان؟ وفى الأمثال الشعبية «من تواضع لله رفعه».
موضوعات تهمك:
السلطويات العربية حين تفرض الانتقام فولكلورا شعبيا
العالم في أمسّ الحاجة إلى قادة «إنسانيين»
عذراً التعليقات مغلقة