إستيقظ السوريون على اعتداءين دمويين من كل من تركيا و”إسرائيل”، وبتوافق واضح من حيث النتائج، في الحد الأدنى، لهذين الطرفين الأساسيين في الحرب السورية، بما يمثل كل منهما من تهديد وجودي لبقاء سوريا، كدولة، في حدودها الأخيرة، وذلك في رسالة واضحة عشية اجتماع أستانة الـ19، بين الدول الثلاث الضامنة للحل السياسي في سوريا (روسيا وتركيا وإيران)، فهل من آفاق لخروج السوريين من محنتهم التي أنهكتهم؟
إجتماع أستانة 19 لن يخرج عن إطار المشاورات بشأن ضبط التنظيمات الإرهابية، بعد أن تم نقل أكثر من 800 مسلح من الأوزبك والإيغور وغيرهم، من إدلب إلى أوكرانيا، من أجل قتال الجيش الروسي فيها، وبتعاون مؤكد مع الاستخبارات التركية.
* * * *
بقلم: أحمد الدرزي
مع كل مؤتمر جديد لاجتماع أستانة، ينخفض مستوى آمال السوريين بشأن قرب إيجاد مخارج لهم من حرب مركَّبة، قاربت على دخولها العام الثاني عشر، وخصوصاً بعد أن تحولت أزمتهم إلى ملف ثانوي على طاولة صراع دولي إنفجر مع بدء الحرب السورية، منتصف آذار/مارس 2011، لينتقل بعدها إلى ساحات متعددة في أوكرانيا وجنوبي شرقي آسيا، وهي ساحات تُخفي الصراع الحقيقي على ديمومة النظام المالي الحالي، وإبداله بنظام مالي جديد، يتيح ظهور نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
وعلى الرغم من العدد الكبير لاجتماعات أستانة، وما أنجزت من تفاهمات بشأن حلب وريف دمشق وحمص والجنوب السوري، فإن الأمور تجمّدت ومالت نحو إنجاز فتح طريق M4 بين حماة وحلب، وتحرير مناطق واسعة من ريف حماة الشمالي، وقسم واسع من إدلب، بالعمل العسكري المُلزم لتركيا، ثم العودة إلى اتفاق ثنائي بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، في 5 آذار/مارس 2020، من أجل استكمال إعادة افتتاح طريق M4، بين حلب واللاذقية، والذي لم يُنفَّذ منه أي شيء حتى الآن.
تتباين ظروف هذا الاجتماع عما سبقه للأطراف الضامنة الثلاثة، فروسيا تجاوزت في حربها مع الناتو بالوجه الأوكراني 8 أشهر، مع بعض الانتكاسات العسكرية، التي دفعتها نحو مزيد من الانخراط في الحرب، التي تحولت، بالنسبة إليها، إلى حرب وجودية، لا مكان للهزيمة فيها، الأمر الذي يرفع مستوى المخاطر الدولية وترتيب الأولويات.
والأمر نفسه، بالنسبة إلى إيران، التي تعيش منذ شهرين مواجهة مع نجاح أميركي إسرائيلي في تحريك الاضطرابات في مناطق متعددة، وتحريك النزعات الانفصالية في غرب إيران وشرقها، وهي تحتاج إلى مزيد من الصبر والزمن للخروج مما دُفعت إليه. ويبقى الجانب التركي ممثَّلاً بالرئيس التركي، الذي يعيش هاجس هزيمة الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد أشهر، وهو يحتاج إلى كل الذرائع للبقاء في الحكم، بما في ذلك تفجير إسطنبول الدموي، الذي وفَّرَ له ذريعة الاعتداءات على قوات الجيش السوري، و”قوات سوريا الديمقراطية”، مع إمكان اجتياحه أجزاء واسعة مما تبقى من الشمال السوري.
وإلى جانب المشاكل الداخلية والخارجية للأطراف الضامنة الثلاثة، فإن التباين مستمر بين روسيا وإيران من جهة، وبين تركيا من جهة ثانية، بشأن تفسير ما تم الاتفاق عليه من توافقات تتعلق بوحدة الأراضي السورية، وسيادتها، واللاجئين، والحل السياسي المؤجَّل، وخصوصاً أن محاولات المصالحة بين تركيا وسوريا دخلت مرحلة التجميد، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية، والأولوية الآن هي للفوز بالانتخابات، مهما تكُن الأثمان، ولو اضطر الأمر إلى إسالة الدماء داخل تركيا وسوريا والعراق، الأمر الذي يمكن أن يتيح تغيير المزاج العام التركي لمصلحة بقاء الرئيس التركي في الحكم.
والأمر لا يتوقف على الأطراف الثلاثة، فهناك الولايات المتحدة، التي أبقت قواتها في منطقة الجزيرة السورية، بذريعة محاربة الإرهاب، لمواجهة روسيا وإيران في سوريا، ومنع انتصارهما، وفق تعبير جيمس جيفري، في مقاله الأخير في “فورين أفيِّرز”، والذي دافع عن بقاء القوات الأميركية في سوريا، الأمر الذي ساهم مع وجود القوات التركية داخل سوريا، واستمرار الضربات الإسرائيلية للجيش السوري وحلفائه، في منع تحقيق انتصار استراتيجي لكل من روسيا وإيران في سوريا، وهذا ما يفسّر عدم اعتراض واشنطن على الهجمات التركية الأخيرة على الشمال السوري، وتحذير رعاياها من التوجه إلى شمالي سوريا والعراق، والتحذير من اجتياح عسكري تركي محتمل، وهي لا تجد غضاضة في ذلك، بعد فشل الحوار الكردي الكردي، بين حزب الاتحاد الديمقراطي، المتناقض أيديولوجياً مع الليبرالية والرأسمالية والدولة القومية، وبين المجلس الوطني الكردي، الموالي لتركيا والولايات المتحدة، تجربةً وتاريخاً، الأمر الذي يفسّر الضوء الأخضر الأميركي للاجتياح التركي، من أجل الضغط على حزب الاتحاد الديمقراطي، وإزاحته عن صدارة المشهد، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، في شمالي شرقي سوريا، على الرغم من تجربة ثمانية أعوام في تأمين الحماية المتبادلة بينهما.
ولا يتوقف العامل الأميركي في الشمال السوري على التآزر الموضوعي مع الوجود العسكري التركي، بل ينتقل إلى الجنوب والوسط والشرق، بتأمين الغطاء لـ”إسرائيل” لمنع التعافي والتنامي العسكري السوري، المتكامل مع الحليف الإيراني، بضرب المنشآت والمطارات والقواعد العسكرية، والتي تشكل تهديداً مستقبلياً للكيان.
وهذا ما يفسر تزامن الضربات الصاروخية التركية والإسرائيلية قبل انعقاد اجتماع أستانة بيومين، لتأكيد استمرار الاستراتيجية الأميركية لمنع الانتصار الروسي الإيراني الاستراتيجي، وفق التعبير الأميركي، وبقاء سوريا في حالة التجميد، ومنع تعافيها، كي تبقى مُنهَكة.
في مثل هذه الظروف، فإن إجتماع أستانة 19 لن يخرج عن إطار المشاورات بشأن ضبط التنظيمات الإرهابية، بعد أن تم نقل أكثر من 800 مسلح من الأوزبك والإيغور وغيرهم، من إدلب إلى أوكرانيا، من أجل قتال الجيش الروسي فيها، وبتعاون مؤكد مع الاستخبارات التركية، ومحاربة النزعات الانفصالية في سوريا وتركيا وإيران، ومحاولات دفع تركيا إلى تنفيذ تعهداتها المؤجلة بشأن فتح طريق M4، ليبقى الحل للمأساة السورية مستبعَداً ريثما تتّضح نتائج الصراع الدولي، الذي سيأخذ أعواماً غير محددة. وليس أمام السوريين إلّا مزيد من الضغوط والانتظار، أو بدء عملية تغيير واسعة كي يقلّعوا أشواكها بأيديهم. فأي خيار يختارون؟
*أحمد الدرزي كاتب وباحث سوري
المصدر: الميادين
موضوعات تهمك: