محمد أبو دومة الشاعر المُريد
بين رمزية المتصوف ومَجازيَّة الشاعر
بقلم : د. أبوزيد بيومي _ مصر
المكان: كوم غريب إحدى قرى مدينة طما ، محافظة سوهاج.
الزمان: مارس من كل عام.
المناسبة: الاحتفال بمولد الشيخ “سيد ياسين أبودومة”.
القائم على الاحتفال هوالمُريد “محمد سيد ياسين أبو دومة”.
ليس تشابها في الأسماء بين الشيخ والمُريد، وليس العهد بينهما مجازا من مجازات اللغة، أو عهدا من البر بين ولد ووالده. فلقد كان عهدا فعليا بين شيخ ومريد. أضفى إلى علاقة الابن بوالده نوعا مختلفا من البر. فلقد عكف الولد على إحياء طريقة والده، شيخ مشايخ الطريقة الرفاعية في صعيد مصر، فجعل من كوم غريب مقصدا لمحبي الشيخ من المتصوفة ممن جايلوه، أو ممن أخذوا العهد على يده من مريديه.
وهكذا ورد الشاعر منذ نشأته الأولى نهر والده الشيخ، فاستقى منه لغته المتدفقة من تفجر عيون الوجد، التي تتدافع بفعل حالات الجذب، المتولدة من صفاء الروح، السابحة في فضاءات الكشف، التي لا يصل إليها إلا العارفون الذين شغلهم وصل المحبوب الأعظم عن وصل من سواه. فكانت لهم لغتهم التي لا يعرفها إلا خواص الخواص. إذ التزموا منهج الستر؛ فتكلموا بلغة تُخفِي أكثر مما تكشف ، و تكشف أكثر مما تُخفي. فبدت فيها تناقضات حيرت ألباب المتأملين، لغة تبدو على السطح متغزلة عاشقة، بينما هي تعكس حالة نادرة من حالات الوجد التي بلغت بصاحبها إلى مقام القرب من محبوبه، فأصبح لا يدرك كنه ذاته التي ذابت شوقا إلى ذلك المحبوب : يقول السهروردي المقتول :
وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا ….. ستر المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم …… وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ
وَإِذا هُم كَتَموا تَحَدّث عَنهُم …… عِندَ الوشاةِ المَدمعُ السَفّاحُ
وَبَدَت شَواهِدُ للسّقامِ عَلَيهمُ ……. فيها لِمُشكل أمّهم إِيضاحُ
فَإِلى لِقاكم نَفسهُ مُرتاحةٌ ….. وَإِلى رِضاكُم طَرفه طَمّاحُ
عودوا بِنورِ الوَصلِ مِن غَسَق الدُّجى ….. فَالهَجرُ لَيلٌ وَالوصالُ صَباحُ
لا ذَنبَ لِلعُشّاقِ إِن غَلَبَ الهَوى …. كِتمانَهُم فَنما الغَرامُ فَباحوا
وإذا كان الشيخ سيد ياسين لم يعبر عن وجده بالشعر، إلا أنه بالضرورة قد تداول مع مريديه أشعار من سبقوه من أئمة الصوفية ومشايخهم كابن عربي، والحلاج والسهروردي،وسمنون المحب، … فتغنوا بها لتنوب عنهم في الصدع بما خفي في وجدانهم من شوق مكتوم، وصبابة أغرقتهم بأمواجها العارمة.
ولما أخذ المُريد محمد أبو دومة العهد على يد والده، كان قد أدرك كنه هذه اللغة وعرف أسرارها، فانعكس أثرها على قصائده، فجاء شعره على اختلاف موضوعات قصائده متدفقا، تتداعاه حالات من الوجد الكامن في قلب لا ينضب معين الشوق منه. فتحول العهد بين الشيخ والمريد إلى قصيدة يلتزم فيها الشاعر تسابيح الإخلاص، فجمع الشاعر بين جذبة الطريق وجذبة الشعر، فكلاهما يعتمد على لغة الكشف واستقراء الأسرار الكامنة في الأشياء، فتتوازي العلاقات بين ألفاظ اللغة، بين رمزية المتصوف و مجازية الشاعر، فيصبح المجاز داعما للرمز، ويصبح الرمز مؤسسا للمجاز. وهي الخاصية التي تميز لغة الشعر عند أبي دومة .
في قصيدة “التأرجح بين المنزلتين” من ديوان ” أتباعد عنكم فاسافر فيكم” يكشف أبودومة عن نص العهد الذي أبرمه مع والده الذي هو شيخه:
أوصى خيرُ الناس و ألْصقُهم بي ..
قال:
كن دِنًّا وادلُق فيك خمورَك
واشربها توَّاً لتفيقك منك
واصفح ..
لا تلجِئ شطآنك أن تتزين مرساة
لسوى .. سفن رَفَعَت
ألْويةَ الحب .. ونَبذَتْ
ما دُون
مَهِّدْ مَمْشَى شَوْقك
حَسِّن مَثوى قلبك
وإذا صَادفتَ العشق أَذِبْ ذاتك فيه
فهذا ضيفٌ لا يأتي إلا غِبّاً
ثم … اسْلك
لقد تحوَّلت القصيدة من مُجرد الشعر إلى عهد يأخذه مريد على يد شيخه، يعلمه من خلال هذا العهد فنون الإخلاص، والإسرار، والصفح، والصفاء، والنقاء، هذا إن أراد المريد أن يسلك الطريق.
ثم يقول أبو دومة في القصيدة ذاتها :
“آهٍ .. يا شيخي ..
من يدك طَعِمتُ النفحَة ..
كيف جوارحُ من أطعمتَ تُجرِّبُ عصياناً فيك …،
أكان بأنْ نبَّهتَ فخالفتُ ،
أتذَكَّرُ أني عنك تغافلتُ ،
وهل حين الصحبة حازَى خطوي خطوَك
لاسَنْتُكَ …
لغرامٍ أن أتدبر في رأسي قولا أبرمتَ..
و أنت زَجَجْتَ بفلذة كبدك في طوفان الترحال
وقلتَ تفقَّه
ذقْ
بعدُ سَترقَى
من حالة من أُخبِرَ فأقرَّ
إلى حالة من شاهد فتيقَّن
تبدو اللغة متدفقة بالألم الذي يكابده الشاعر/ المريد في سبيل الحفاظ على عهد أبيه. فالشاعر يستعطف (الشيخ/ الوالد) ليقبل عذره إن نسي أو غفل عن بعض أركان العهد الذي بينهما. فالشاعر هنا ليس مجرد مريد ، بل هو (مريد/ ابن) .
كما تبدو اللغة حمالة أوجه، فيقف الشعر على جبل أعراف المعاني، بين وصايا الشيخ لمريده ، ونصائح الوالد لولده، فتتماهى الحدود، وتنصهر الحواجز في حالة فريدة من الخوف والرجاء. خوف من شيخ يسعى لتأديب مريده بعصا الوصايا، ورجاء في والد يمد يد العطف لابن يسترضيه.
فلغة الشاعر محمد أبودومة لغة تتجاذبها المعاني في اتجاهات شتى، فتصيب من كل اتجاه طرفا، فلقد أعطاها التصوف رمزيته، وأعطاها الشعر مجازه وفنيته. كما تتداعى الألفاظ لتنقل الشعر من مقام الشعور إلى مقام التجلى، فينهمر سيل الشعر يدفع بعضه بعضا دون توقف حتى تنتهي القصيدة، فلا يجد المتلقي أثناء القراءة زاوية لفظية يلتقط عندها أنفاسه.
ولقد حرص الشاعر على نقل منهجه الشعري بدءا من عناوين الدواوين، وعناوين القصائد. حيث نجد عناوين الدواوين جاءت تحمل ألفاظا وتراكيب تنتمي إلى قاموس التصوف، ” تباريح أوراد الجوى” ، أتباعد عنكم فأسافر فيكم”، الوقوف على حد السكين”، “السفر في أنهار الظمأ”. كما جاءت عناوين القصائد معبرة عن ذلك التوجه : “أتجلى لي أتهجاني”، تهجد المريد الذي بري وجدا”، “تريَّثْ”، “تَكَتَّمْ”، “مقامة تجليات السفر والمجيءإلى حضرة المحبوب”،”الحضرة”، “مفتاح المثول إلى الحضرة”، فضلا عن قصائد التباريح ومنها: “برح ورد الحوراء”، برح ورد النجلاء”، وغيرها من العناوين. أضف إلى ذلك التراكيب التي امتلأت بها القصائد. فكلها تعكس منهج الشاعر المتصوف أو الشاعر المريد، الذي يسبح بلغته في فضاءات مفتوحة المعاني.
رحم الله شاعرنا الكبير دكتور محمد أبودومة.
ـــــــــــــــــ
عذراً التعليقات مغلقة